المعركة.. الفصل الاول. "سپيلبيرج"..!
ايام الكلية .. كنت ـ بالرغم من جديتي في الدراسة و المشاريع ـ عيل ثورجي و متمرد.. و ما كنتش فاهم اهمية اننا ندرس التراث .. و الحاجات القديمة دي...
فكنت دايما احتج لما اساتذتنا يطلبوا مننا اننا.. مثلا.. نصمم جدارية في الطراز المصري القديم من الدولة القديمة.. او من الاسرة ١٨..
طبعا كنت بانفذ المطلوب .. و مع الوقت اتعلمت احب الشغل الفرعوني و احترمه.. و اكتشفت.. من خلال العمل و التصميم.. جماله و اعجازاته ..
انما طبعا كانت حجتي "يعني.. مين يعني حا يطلب مني في المستقبل اني اصمم حاجة في الطراز الفرعوني .. يعني..؟؟؟"
و طبعا.. لما إشتغلت علي Prince of Egypt حسيت ان كل اساتذتي في الكلية .. بيضحكوا عليا و بيضربوني بالقفا.. زي صبي ميكانيكي عبيط.. مش عارف قيمة و اهمية مفتاح ١٣ !
فِلم أمير مصر الذى شارك فيه الفنان هانى المصرى |
ملحوظة : الفنان هانى المصرى كان عضو من فريق صناعة الفِلم الكرتونى أمير مصر
في الفترة الاولي .. اسبوع او اتنين من بداية الشغل.. قعدت ابص حولي و اشوف باقي الفريق بيعمل ايه.. عشان افهم و احدد الطريقة اللي حاشرح لهم بيها تفاصيل حضارتي و تاريخي.. علي الاقل من الناحية التشكيلية..
لاحظت اولا انهم متأثرين جدا بالشكل و النسب الروماني و الإغريقي .. اللي اقرب لحضارتهم.. بيستعملوا مثلا الرخام ـ مش الحجر ـ و قماش كتير .. حتي عند الناس الفقرا..
و كمان كانت الجماليات كلها حديثة جدا.. مش في نسب الحضارات القديمة...
فكانت خطواتي الاولي اني ادخّل خامات مختلفة ـ صحيحة ـ في التصميمات.. يعني تحولت مثلا الستاير علي شبابيك الفقرا.. و حتي بعض بيوت الطبقة المتوسطة .. من قماش .. للحصير .. حصير بردي سميك للفقرا.. و حصير مجدول بأناقة للمتيسرين .. نوعا ..
و طبعا.. لان الطقم اللي شغال كلهم فنانين جامدين .. جدا .. فهموا كلهم قصدي.. و ابتدوا يسألوا كل الأسئلة الملائمة..
"العجلة الحربية بتتبني ازاي ؟".. "إيه نسب الفخاريات..؟" .. "كانوا بيطحنوا القمح بإيه..؟" .. "كانوا بيستعملوا سيوف ولا خناجر.. ولا حِراب .. و شكل الدروع ايه.. ومصنوعة من ايه ؟؟"
الآف الأسئلة.. و انا بارسم ده كله .. بسرعة ٢٥٠ كيلو في الساعة..
و بعد شهر من الشغل المجنون .. و اللذيذ جدا.. ظهرت مقولة جديدة في الاستوديو : "كل الناس هنا شغالة علي الـ Prince... و هاني شغال على Egypt..!"
جانب من اعمال الفنان هانى المصرى أثناء التحضير لفِلم امير مصر |
و في اليوم الموعود.. علقنا الشغل كله في قاعة كبيرة.. و دخل "سپيلبيرج" ببساطة مع "چيفري كاتسنبيرج" و قعد في المقدمة.. و معاه التلات مخرجين و المنتجة و المديرين الفنيين .. و مسؤلين الاستوري بورد.. و المحركين الأساسيين في الفيلم.. و ابتدينا نشرح له .. بالدور .. الشغل اللي عاملينه.. كل واحد و مسؤلياته.
و كان دوري في الآخر خالص .. نسبة لان شغلي كان واخد مساحة كبيرة..
و جت اللحظة.. و طبعا لو قولت لكم اني ما كنتش مرعوب .. ابقي باهرج !
آدي المصري المتواضع.. واقف قصاد عملاق الشاشة الأمريكية.. و صاحب كمية جوايز "أوسكار" بالهبل.. و بيشرح له شكل الفيلم بتاعه حا يبقي ايه...
و بعد دقايق.. و انا باوصف له كل تفاصيل الشغل.. بصيت له .. و حسيت انه زي اي واحد.. مبهور بجمال الأشياء .. و علي وشه نفس الإبتسامة اللي كانت بتبقي علي وش أي سائح في المتحف المصري اللي في التحرير.. نفس نظرة الإحترام قصاد الحضارة اللي علمت العالم إزاي يبقوا بني آدمين..
فاتشجعت.. و انا مستخبي ورا جمال تراثي .. في جلابية امي مصر..
فحكيت عن موقفي ايام الكلية.. و اتكلمت عن تفاصيل الحياة في مصر القديمة.. و عبقرية التصميمات و استعمال الخامات .. و شرحت الرسوم اللي كنت رسمتها بكل الحب و الشوق لبلادي البعيدة...
و الصالة كلها .. ترمي الإبرة.. ترن !
وجه سؤاله الأول : "و انت تعرف منين ان كل ده حقيقي.. و مطابق للتاريخ ؟"
فرديت بإبتسامة : " لأني من هناك..!"
فضحك و قال : "ايوة.. عارف.. انما الكلام ده من آلاف السنين..!"
فمديت ايدي للوحه كانت مركونة و وشها للحيط.. و قلبتها. و كان عليها صورة بورتيه تمثال شيخ البلد.. و جنبها نفس الصورة بس عليها الشنب و الدقن و النضارة.. و شبهي طبق الأصل..!
و قلت له و انا باصص في عينيه : "ما انا من هناك .. برضه!"
و إبتسم "سپيلبيرج" بذكاء.. و فهم.. و قام و قرب مني .. و مد ايده لدراعي.. و حسس عليه و قال بصوت عالي : "انا عمري ما شوفت مومياء محفوظة بالجودة دي !"
فإنفجرت القاعة كلها ضحك.. و دي كانت علامة موافقته علي الشغل.. و نهاية الجلسة.
طبعا.. مش كل السنة و نص اللي قضيتها في العمل .. بالظرف و البساطة دي !
ده كان بس.. الهدوء اللي بيسبق العاصفة !
إذا استمتعت بقراءة هذا المقال اظن انه سيكون من الممتع قراءة الجزء الثانى و الثالث و الرابع و من ثم الخامس و الاخير
بقلم الفنان الراحل / هانى المصرى
تعليقات
إرسال تعليق