القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحة العائلة ... و محاولة لقرائتها


رسم محمود سعيد لوحة العائلة عام 1936 وهو فى قمة نضجه الفنى ويظهر فيها بجلاء عناصر لغته الفنية و شخصيته المصرية المتفردة وعالمه الفنى شديد الخصوصية... البناء المعمارى الشامخ والنزعة التحليلية الهندسية لمسطح اللوحة..الضوء الداخلى الذى يشع من اللوحة معاكسا تلك القتامة التى تغلفها..الوجوه الأخناتونية والأجساد الصلبة الملفوفة فى إستدارات وتكويرات كأنها تماثيل فرعونية قدت من حجر.. ثم تتجلى نفحة العبقرية فى هذه النزعة الحسية التى تتبدى فى هذا الحس الإنسانى الذى تتفجر به شخوصه خاصة من النساء اللاتى يسيطر عليهن شبق ربة الإخصاب ووجد وحنان الأم الراعية والربة الحامية فى آن واحد.

لوحة العائلة للفنان محمود سعيد
لوحة العائلة للفنان محمود سعيد

تصور اللوحة عائلة من أبناء الأرض من الفلاحيين..أب وأم ورضيع..التكوين الهرمى قاعدته تحتلها الأم الجالسة على الأرض تحتوى رضيعها بين ذراعيها تلقمه ثديها الممتلئ بالوفرة والخير...وأعلاهما ينتصب الأب سامقا أقدامه على قاعدة الهرم ورأسه فى قمتها وكأنما يمثل التكوين التدرج الهرمى فى العائلة الرجل فى قمة الهرم تليه المرأة ثم الأبناء.

علاوة على التضاد بين مكانى الرجل والمرأة فى القمة والقاعدة فى التكوين فقد خلق الفنان تضادات أخرى ..فالمرأة فى كامل هيئتها.. الفستان الأزرق والملائة السوداء ومنديل الرأس وحتى الكردان الذهبى يلف عنقها...تكويرات جسدها وألوانه الساخنة المضيئة تشى بجسد بض يحاكى فى غضاضته جسد الرضيع الذى تردد تكويراته جسد أمه وتجعل الجسدين يتوحدان فى كتلة واحدة..أما كتلة الرجل فهى منفصلة نسبيا وهو شبه عار إلا من إزار يلف وسطه وطاقية تغطى رأسه وكأنه فى هيئته فلاح أتى إلى اللوحة من رسم حائطى لمقبرة فرعونية..إلتفافات جسده المحبوكة وألوانه النحاسية القاتمة تعطى مظهر من يعمل يومه فى شمس مصر الحامية ليكسب قوته بقوة ساعديه..وإمعانا فى تأكيد هذا فقد جعله الفنان يثنى ساعده ويتكئ على إحدى ساقيه كمن يستريح من عناء عمل شاق.

لوحة العائلة للفنان محمود سعيد
لوحة العائلة للفنان محمود سعيد

وبرغم أن الوحدة بين الكتلتين كتلة الأب وكتلة الأم والطفل تأتى من الإطار الخارجى للهرم إلا أن ما يوحدهما بقوة هو ذلك الشعور الحسى الذى يتجلى فى إيماءة رأسيهما ونظرات أعينهم الحانية الموجهة للطفل اللاهى عنهما بطعامه.
خلفية اللوحة تظهر عالم محمود سعيد فنان المنظر الطبيعى المصرى كما صوره فى العديد من لوحاته..الخطوط الرأسية للنخيل تتعارض بحدة مع خط الأفق وتتحاور مع الخطوط المحورية لشاطئى الترعة لتخلق العديد من المثلثات والمستطيلات التى تتناغم لتخلق هذا العالم شبه الأسطورى.

مثل أى فنان فذ يسيطر بإقتدار على لغته الفنية يجعلك محمود سعيد تتجول فى اللوحة كما يريد... يقودك إلى حيث توجد مكامن التعبير لتتوقف عندها وتنهل من عبيرها..خطوط القوى الرئيسية يمينا ويسارا تنزلق صاعدة إلى أعلى قمة الهرم حيث رأس العائلة..من يمين الصورة حيث الجاروف المغروز فى الطين تصعد عبر الفخذ ثم تنحرف مع الساعد لتتوقف برهة عند المرفق ثم تكمل طريقها صاعدة إلى الرأس وهنا تقودها إلى أسفل نظرة العين مرورا ببروز الأنف وتدبيبة الذقن إلى رأس الأم التى تقودها بدورها من خلال إستطالتها ونظرتها إلى أسفل إلى حيث رأس الطفل وهنا تجد العين مرادها وتستقر فى هذه المساحة الرحبة وتكتشف أن العين قد تتجول هنا وهناك فى فضاء اللوحة إلا أنها تعود دائما كما لو كانت مشدودة بخيوط لامرئية إلى الأم والطفل..هنا إذن يكمن مفتاح اللوحة .. الخصوبة والعطاء والمستقبل الواعد الذى يتشكل.. وهنا أيضا نجد أن المعنى يتجاوز الهيئة المرسومة ليصبح أعم وأشمل ..إيزيس وأوزيريس وحورس.. أو العائلة المقدسة فى رحلتها سعيا إلى الأمان فى أرض الكنانة.. أو قل هو الأمل الأبدى لبنى البشر فى ظهور المخّلص الذى يحقق الخير والعدل.

بقلم الفنان / سمير فؤاد
سبتمبر 2012

الفنان سمير فؤاد

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات