القائمة الرئيسية

الصفحات

ذكريات فنان مصرى للزمن الجميل جـ 1

 



رحلة المتروإلى وسط البلد ( الجزء الأول )


كنت أستقبل صباح يوم الخميس فى طفولتى بحماس زائد عن المعتاد .. ليس لأنه يوم صدور مجلة السندباد وآخر الأسبوع المدرسى فقط .. وإنما ترقبا لرحلة المساء مع أبى وأمى إلى وسط البلد .. كانت هذه الرحلة الأسبوعية من الطقوس التى لم تتوقف طوال سنين الطفولة ومرحلة الصبا فى أربعينات وخمسينات القرن الماضى .


الصورة لمدخل فندق هليوبوليس بالاس
الصورة لمدخل فندق هليوبوليس بالاس


تبدأ الرحلة المثيرة قبل المغرب بالذهاب إلى محطة مترو ميدان سفير على بعد خطوات من منزلنا .. على رصيف المحطة أقطع حبل الملل بمشاهدة أغلفة المجلات التى فرشها بائع الصحف على الرصيف .. المصور والكواكب والإثنين والدنيا وعليها صورالمشاهير وخاصة الممثلات بألوان فاقعة وهالات ونجوم حول رؤوسهن .. هذه الصور كانت تستدعى إلى مخيلتى حجرة بواب عمارتنا المحشورة تحت السلم والتى تحتوى بالكاد على سريره .. وقد غطى سطح حائطها بالكامل بصور ممثلات مصريات وأجنبيات بدون تمييز .. وكأنه كان يستأنس بهن ويستعين بوجودهن على تلطيف قسوة حياته .


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة منها


بعد إنتظار تهل علينا من بعد قاطرة المترو بهيكلها الخشبى المدهون باللون البنى وعيونها التى لا تتوقف عن التحديق فينا .. نصعد إلى مقصورة الدرجة الأولى بمقاعدها الجميلة المكسوة بالقش المضفر .. وأهرول رغم محاولة أمى كبح جماحى لأجد مكانا بجوار النافذة فالرحلة بعيدا عن النافذة ستفقد الكثير من عناصر الإثارة سواء المتوقعة أو يا حبذا الجديدة الغير متوقعة .. يطالعنا كمسارى المترو بزيه الكاكى ذو الأزرار النحاسية وطربوشه الأحمر والشنطة الجلدية التى يضع فيها لوح التذاكر وإيراد الرحلة .. ينفخ فى زمارة نحاسية قصيرة تصدر صوت بطة مذعورة إيذانا بالتحرك .


يتهادى المترو متأرجحا كل حين من جانب لجانب قاطعا شارع طنطا ( عثمان بن عفان حاليا ) ..أعرف محطات المترو بأماكنها وأسمائها بداية من ميدان الإسماعيلية على مرمى البصر من منزلنا مرورا بميدان صلاح الدين ثم محطة البازيليك حيث تنتصب الكنيسة بأقواسها الضخمة وقبابها العجيبة معلنة عن وجودنا فى صرة مصر الجديدة .. ينعطف المترو إلى منطقة الكوربة حيث منطقة البواكى فى شارع إسماعيل ( بغداد حاليا ) بمحلاتها المثيرة العجيبة ثم ينعطف المترو إلى شارع عباس ( إبراهيم اللقانى حاليا ) ليطالعنا مبنى فندق هليوبوليس الفخم الذى يعلو سامقا مسيطرا على كامل المشهد .. كان مبنى الفندق العظيم الحجم والذى تعلوه قبة ضخمة مصمم على طراز مبانى مصر الجديدة التى مزجت بحس بارع بين الطراز الإسلامى والطراز الأوروبى الكلاسيكى الجديد .. وكان مشهد المبنى بمدخله الشاهق الذى يحاكى مدخل جامع وأقواسه العالية وحديقته الواسعة بأشجارها ونخيلها مثيرا للدهشة الممزوجة بالإعجاب .. وأذكر صورة ضبابية غير واضحة المعالم عن الذهاب مع أبواى للجلوس فى تراس الفندق والذى عرفت فيما بعد أنه كان من أرقى الأماكن فى حينا الجميل ولكن لا أذكر أكثر من هذه الواقعة .. وربما كان إحجام أبى المعروف عنه بحب الجمال عن اصطحابنا مجددا لهذا الفندق يرجع إلى حدود قدراته المالية .. وبعدها بسنوات بعد قيام الثورة تم إغلاق الفندق بعد عدوان 1956 ثم تحول فيما بعد إلى مقر الوزارة الإتحادية.


عند محطة روكسى حيث ينتصب مبنى كازينو البافيون دوريه بمبناه الدائرى العجيب يكون المترو قد وصل الى حدود مصر الجديدة وبعدها تتابع محطات حفظتها كأسماء لا تعنى بالنسبة لى أكثر من أماكن مجهولة غير محددة المعالم ولكنى طبعت فى ذاكرتى صورة تمثل هوية كل محطة كعلامات على الطريق مثل مبنى باللون الأبيض على الطراز الحديث فى محطة منشية البكرى .. وشوارع معتمة شحيحة الإضاءة فى محطة كوبرى القبة .. ومنزل أحد الأقارب الذى زرناه مرة وحيدة يلوح شبحه على مرمى البصر فى محطة منشية الصدر .. ثم محطة الدمرداش والتى كانت تعلن عن بداية المتعة الحقيقية فبعدها يتوازى مسار المترو مع شارع الملكة نازلى ( شارع رمسيس حاليا ) .. أنتطر قدوم مشهد العمارات الضخمة التى تنتصب على الجانب المقابل من الشارع .. ولكنها لم تكن هى الهدف الذى أنتظره بل كان الإعلانات كبيرة الحجم والتى كانت مرسومة عليها بحرفية ومهارة .. أولها وأحبها إلى كان إعلان مشروب القوة كينا بيسليرى الحديدية والذى كان لوجه أسد بلبدة كثيفة يكشر عن أنياب بارزه يرفع قدمه اليمنى فى إستعراض للقوة .. ولأننى كنت مفتون وقتها بملك الأدغال وبأفلام طرزان ومجاهل أفريقيا فقد كانت صورة أسد بيسليرى بحجمها الكبير هى قمة الإثارة والمتعة .. بعد أسد بيسليرى يأتى إعلان كينا رومانى .. الحديدية أيضا !! .. ولم أكن مغرما بهذا الإعلان الذى يمثل البطل الرومانى فى دروعه الفضية يرفع عاليا زجاجة الكينا ويضغط بإحدى قدميه على فهد مسجى تحت أقدامه .. كان شكل الفهد أقرب إلى قطة أليفه ويدعو للرثاء .. أين هذا من أسد بيسليرى الفخم وتكشيرته المرعبه .. تتابع اللوحات التى لم تحتفظ الذاكرة بشيئ منها ثم قبل نهاية الشارع تظهر هذه اللوحة العملاقة لعينين كبيرتين تحت حاجبين معقوفين تحدقان بتحدى .. الدكتور محب للعلاج بالتنويم المغناطيسى .. وكان الدكتور محب فى وقتها قد حظى بشهرة كبيرة فى العلاج بالتنويم المغناطيسى والأرواح .. وكان أغلب زبائنه أو قل ضحاياه من السيدات.. كانت عينا الدكتور محب تثير الرهبة فى قلبى وظلت معى حتى عندما عرفت لاحقا أنه مجرد مشعوذ ودجال .. وأن الشرطة ألقت القبض عليه وتناولت الصحف فضائحة .. وبعدها أغلقت عيادته ورفعت اللوحة من مكانها .. ولكن ظلت صورة عينا الدكتور محب المحملقتين مطبوعة فى ذاكرتى حتى اليوم.


إلى اللقاء فى الجزء الثانى


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات