القائمة الرئيسية

الصفحات

إبراهيم شهدة ... الفنان المغترب

 


أول مرة أدخل مرسم الفنان حسن سليمان فى مطلع  الثمانينات رأيت لوحة صغيرة معلقة فوق المدخل بحيث تكون آخر ما يشاهده الزائر وهو فى طريقه لمغادرة المرسم .. كانت اللوحة لمراكب على النيل يغلب عليها اللونين الأخضر والأسود .. سألته عنها فقال أنها لصديقه إبراهيم شهدة ( 1929- 1991 ) .. رفيقه فى كلية الفنون وزميله فى التلمذه على يد الفنان الفرنسى المتمصر بيبى مارتان .. أعجبته اللوحه فأهداها  له شهدة عربونا على الصداقة .. وعرفت منه أيضا أن شهدة ترك مصر بعد التخرج بفترة وجيزة وإستقر فى فرنسا ولم يزد حسن سليمان على هذا برغم محاولاتى معرفة المزيد بدعوى أن أخبار شهدة قد إنقطعت.


لوحة شخصية للفنان إبراهيم شهدة
لوحة شخصية للفنان إبراهيم شهدة


أعجبتنى اللوحة بمصريتها وقوتها التعبيرية .. وكون أن حسن سليمان المعروف عنه تحفظه الشديد فى إطراء فن معاصريه  قد وضع هذه اللوحة فى هذا المكان المميز فلا بد أنه يضع  فن شهده فى مكان أثير.  


بعد فترة فى منزل صديقى الدكتور سعيد دراز رأيت لوحتين من لوحات إبراهيم شهدة ..  وجه لسيدة مرسوم بالباستيل  ومنظر طبيعى يغلب عليه الأسود والأزرق .. كانت القوة التعبيرية  وأستاذية المعالجة تشير إلى فنان ذو وزن كبير .. وعلمت منه أنه قابل إبراهيم شهدة فى معرضه الأخير بفرنسا وإقتنى منه هذه اللوحات .. وعندما رأى الدكتور سعيد مدى حماسى للوحاته أهدانى ملصق و كتالوج معرض شهدة وظلا معى بالمرسم حتى اليوم أراهما كل حين و أنا أبحث عن شيئ  فى طيات الأوراق المكدسة .


المعلومات المتاحة عن شهدة شحيحة .. نعلم أنه تخرج من كلية الفنون عام 1952 وترك مصر إلى فرنسا عام 1955 .. والتحق بقسم الدراسات الحرة بالبوزار بباريس ثم استقر فى جنوب فرنسا ولكنه كان يزور باريس بين الحين والأخر .. لا نعلم لماذا ترك مصر ولماذا لم يستقر فى باريس بؤرة الفن وملتقى فنانى العالم الباحثين عن الفن و المجد .. وهل كان لطبيعة الطقس والضوء سبب قراره بالإستقرار فى الجنوب مثلما فعل فان جوخ وسيزان وماتيس من قبل .


أول معارضه كان عام 1958 ثم تعددت معارضه وبعد حين أصيب بالداء الذى يصيب معظم الفنانين الجادين وهو عدم الرضاء عن أعماله .. فبدأ يزور بلاد العالم الغربى ويزور متاحفها فزار إيطاليا وبلجيكا وهولندا وأسبانيا ولكن حدثا صاعقا زلزل كيانه وقلب حياته رأسا على عقب فى عام 1975 عندما علم أنه مصاب بالسرطان .. وبدأ شهدة يعمل  وسيف القدر مسلط على رأسه  .. وعندما أمهله القدرعدة سنوات تعافى فيها من المرض أخذ يرسم كالمحموم لوحات طبيعة صامتة ومناظر طبيعية محملة بالصراع الذى يعيش فيه  ووجوه لأصدقائه المقربين كأنما يسجل من خلالهم الدفء الذى يحيطونه به .. وكان يقول  " لا بد أن تقتنص العمل من بين أنياب الزمن ". 


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة منها


ولكن المرض عاوده فى عام 1985 وأخذت حالته الصحية تتدهور .. وبرغم معاناة المرض أخذ يرسم فى مرحلته الأخيرة وجوه لرجال و نساء و العديد من الصور الشخصية لنفسه مقتديا أثر فان جوخ ورمبراندت .. كلها وجوه ممسوخة شاحبة ومفزوعة.


تقف لوحته هذه التى رسمها لنفسه فى مرحلته الأخيرة مثالا على أسلوبه الذى كان ينضح بما كان يعانيه فى سنواته الأخيرة .. لا نرى أى تفاصيل فاللوحة كأنها شحنة من الإنفعالات فجرها شهدة بفرشاته على سطح اللوحة .. رسمها بألوان سائلة وكأنه يسكب روحه وكيانه كله عليها .. وبضربات فرشاة عنيفه تترك آثارها  ندوبا شريطية متوازية و متقاطعة وكأنه مبارز يضرب بسيفه يمينا و يسارا محاولا أن يقهر شبح إله الموت الذى يقترب مشهرا منجله البتار الذى لم و لن ينجو منه مخلوق مها كان .. ولكن اله الموت الماكر الغادر  يتلقف هذه الطعنات و يردها إلى جسد الفنان لتمزقه إربا.


لوحة شخصية للفنان إبراهيم شهدة
لوحة شخصية للفنان إبراهيم شهدة


 على خلفية من لون نحاسى قاتم  يسيطر جسد الفنان على اللوحة  بألوان داكنة  من البنيات  والأزرقات ببناء هرمى كأنه جبل بركانى نبت من قاعدة اللوحة .. وعلى قمته تنفجر كتلة الرأس بألوان ذهبية وكأنها مرسومة بنحاس مصهور لتبدد ظلام اللوحة بهذه البقع المضيئة على الجبهة والوجنة والأنف .. وتبلغ المأساة ذروتها فى هذا التعبير المريع  الذى نراه على  وجه شهدة بعينيه الغائرتين ونظرته المملوءة  بالخوف والوجل .. وهنا تتفجر ضربات الفرشاه بطاقة عنيفة تشوه كل الملامح وتحيل الوجه إلى عجينة منصهرة تتناثر أطرافها فى شرائط  سائلة .


نرى فى  لوحات شهدة خاصة المرحلة الأخيرة كيف أثرت جولاته فى متاحف أوروبا على فنه .. وكيف إمتص فى داخله قبس من الجذوة التى تركها لنا عباقرة فن التصوير .. فترى فى هذه اللوحة طيف رمبراندت  وروح جويا وعنفوان حاييم سوتين وقسوة فرانسيس بيكون .. ولكن شهدة صهر كل هذا فى بوتقة فنه وخرج منها بشعلة  ذاتية مضيئة عبر من خلالها عن وحدة الإنسان ومحنتة  فى صراعه مع  سيف القدر البتار والذى يعلم علم اليقين أنه فى نهاية المطاف سيناله لا محالة فى مقتل.


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات