القائمة الرئيسية

الصفحات

صباح الخير من كوربيه إلى بيتر بلايك

 



عندما عمل الفنان الأمريكى روبرت روشنبرج بالممحاة على رسم للهولندى المتأمرك وليام ديكوننج حتى محاه تماما وأسماه " رسم ممحى لديكوننج 1953 "  فإنه كان يعلن الخلاص من تأثير ديكوننج على فنه .. ولكنه فى ذات الوقت كان يؤكد عنصرين من العناصر الفاعلة فى تاريخ الفن منذ بدأ الفنان البدائى يخط رسومه البديعة على جدران الكهوف وهما التأثر والإقتباس.


لوحة المقابلة للفنان جوستاف كوربيه , عام 1854
لوحة المقابلة للفنان جوستاف كوربيه , عام 1854


يشكل التأثر والإقتباس عنصرين فاعلين فى الفنون عموما من الشعر والأدب إلى الموسيقى  والتصوير  .. فى مجال التصوير قام فن عصر النهضة على إستلهام  فن الإغريق وتأثر فن المنمات الإسلامى بالفن الصينى والهندى .. وعندما كان فان جوخ يريد تبسيط تكوين لوحاته والخروج بالتمثيل الفراغى فيها من حيز مفاهيم الفن الأوروبى فى وقتها لجأ إلى الفن اليابانى ونسخ لوحات هيروشيجه  ..وعندما أراد بيكاسو إعادة صياغة لغته البصرية لجأ إلى الفن الإتروسكى والفن الإفريقى .. ومنذ مانيه الذى إقتبس أوليمبيا من تيتيان ومن بعده إقتبسها منه سيزان أصبح الإقتباس يستعمل  كتحية من فنان لفنان آخر يقدره ويبجله وكذلك للتأكيد على مفهوم أن الفن حلقة متواصلة ينظر فيها الفنان إلى الماضى وهو يستشرف المستقبل .. والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال هنا لذكرها ولكن يكفى أن نذكر الإنفانتا مارجريتا لفيلاسكيز والتى أعاد رسمها الكثير من الفنانين كل بأسلوبه من سارجنت ودالى إلى بيكاسو.   


نعرض هنا مقارنة بين لوحة للفنان الفرنسى جوستاف كوربيه رائد الإتجاه الواقعى  ( 1819 – 1877 ) ولوحة للفنان البريطانى بيتر بلايك وهو من رواد فن البوب  ( 1932-  ) والتى إقتبسها من لوحة كوربيه. 


أنجز كوربيه لوحته الشهيرة  " المقابلة "  فى عام 1854 وهى تصوره مع الثرى ألفريد برويا أحد رعاة فن كوربيه .. وعندما عرضها فى باريس فى العام التالى 1855 أطلق عليها النقاد تهكما " صباح الخير يا سيد كوربيه " وأصبحت تعرف بهذا الإسم .. وكان كوربيه بأفكاره الثورية الموالية لمبادئ الثورة الفرنسية قد إتخذ لنفسه أسلوبا واقعيا معاكسا به قيم الإتجاهين الكبيرين المسيطرين على المشهد الفنى فى وقتها .. الإتجاه الرومانتيكى والإتجاه الكلاسيكى الجديد .. وأصبحت مواضيع لوحاته وشخوصها مستمدة من الحياة الواقعية .. وكانت البداية عام 1850 بلوحته العملاقة " مشهد الدفن فى أومانس " والتى كانت صادمة بموضوعها وأسلوب تنفيذها فى وقتها ووصل بأسلوبه إلى ذروته التعبيرية  عام 1855 فى لوحته الأشهر " ستوديو الفنان " والتى وصفها بأنها " تمثيل واقعى للسبعة مراحل فى حياتى الفنية والأخلاقية " .


فى لوحة المقابلة والتى إستوحاها كوربية من أسطورة اليهودى التائه .. يقف  كوربيه على الجهة اليمنى من اللوحة مرتديا زيا متقشفا لشخص من طبقة العمال .. قميص وسروال وصديرى وحذاء من النوع الذى يرتديه جنود المشاه .. مثل اليهودى التائه يحمل فى يمينه عصاة طويلة بطرف مدبب لتعينه على السير فى الأراضى الوعرة وعلى ظهره يحمل حامل لوحاته وحقيبته التى تحتوى على أدوات الرسم وفى يسراه يمسك بقبعته التى خلعها لتحية برويا .. فى المواجهة نرى الثرى برويا فى سترته الخضراء الأنيقة وقفازه الجلدى وقبعته فى يسراه وعصاه التى إتخذها للأبهة والزينة أكثر منها كأداة للسير وعلى يمينه يقف خادمه كالاس فى كامل زى الخدم بسترته المتهدلة وهو يحمل فى يسراه معطف سيده .


لوحة المقابلة للفنان جوستاف كوربيه , عام 1854
لوحة المقابلة للفنان جوستاف كوربيه , عام 1854



يؤكد كوربيه رسالته إلى المشاهد من زوايا رؤوس شخوص اللوحة فكوربيه  أدار رأسه قليلا إلى اليسار ناظرا إلى برويا بزاوية من أعلى كأنه يؤكد إحساسه بذاته وبرويا ينظر أمامه نظرة من لا يحتاج لتأكيد مكانته أما كلاس المسكين فهو مطرق الرأس فى خشوع من يعرف دنو مكانته . 


يضع كوربيه كلب السيد برويا المدلل فى المركز البصرى للوحة ليؤكد أهميته بصريا ومفاهيميا ..  فهو حيوان مدلل  ليس للرعى أو للصيد وإنما للترفيه والأبهة .. وهو بوضعه فى هذا المكان يؤكد أهميته للسيد برويا ويتهكم على التراتبية الإجتماعية  وميزان العدل الإجتماعى المقلوب .. وعلى البعد تبدوا المركبة  التى أقلت السيد برويا تنتظره إلى أن ينتهى من نزهته الخلوية تأكيدا على الحياة الرغدة للسيد برويا مقابل الهيئة التى صورها كوربيه لنفسه كأحد أفراد الطبقة العاملة المكافحة الذى يضرب بعصاه فى الأرض ساعيا وراء لقمة عيشه.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة منها


يضع كوربيه فى هذه اللوحة إحساسه بذاته كفنان مرموق وموقفه من المجتمع  وأفكاره عن الطبقية وحبه للطبيعة وللبراح المفتوح البعيد عن قيود المدينه وحياتها المتصنعة.


بعد لوحة كوربية بأكثر من قرن من الزمان فى 1979 إقتبس بيتر بلايك لوحة كوربية وأنجز على غرارها لوحته " المقابلة .. أو صباح الخير يا سيد هوكنى " وهى تسجيل لإنطباع بيتر بلايك عن زيارة قام بها مع زميله الفنان البريطانى هوارد هودجكن إلى صديقهما الفنان البريطانى  ذائع الصيت دافيد هوكنى الذى كان مقيما فى لوس أنجيلوس بكاليفورنيا .


فى اللوحة يقف هوكنى مكان كوربية بزيه الرياضى معلنا عن مجاراته وسعادته بمجتمع لوس أنجيلوس المتحرر من قيود مجتمعه البريطانى المتزمت والذى تركه خلفه .. ولكن بلايك يضيف لمسات من التهكم على المشهد فيجعل هوكنى يعلن عن هويته مستعيضا عن عصا كوربيه بفرشاة رسم ضخمة وفى نفس الوقت الذى تقشف فيه هوكنى فى زيه فإنه يضع ساعة ذهبية فى معصمه ويدخن السيجار علامة على المكانة الإجتماعية  والثراء  المادى .. وفى المقابل يقف بلايك مكان برويا معلنا نديته لهوكنى وتمسكه بهويته البريطانية بزيه التقليدى وعصاه المألوفه وبجانبه يقف هودجكن بزى مماثل مطرقا بسخرية من الموقف وقد خلع ثلاثتهم قبعاتهم تعبيرا عن الإحترام المتبادل.. ويتحلق حول الثلاثى البريطانى الغريب مجموعة من الفتيات والفتيان بأزيائهم الرياضية يتريضون أو يلهون بقباقيب التزلج علامة على جو الرخاء الذى ترفل فيه المدينة .. وفى مكان كلب السيد برويا وضع بلايك كلب يذكرنا بكلب علامة الجرامافون البريطانية  الشهيرة " صوت سيده " وكأن بلايك يستعيد  صورة تذكره بوطنه. 


لوحة صباح الخير يا سيد هوكنى للفنان بيتر بلايك 1979


فى اللوحة نرى التقابل المقصود بين لوحة كوربيه بفضائها المفتوح  وسمائها الصافية والمروج الخضراء الممتدة حتى الأفق وبين مشهد  مدينة لوس أنجيلوس العصرية بلا ماضى  بمبانيها الأسمنتية ذات الزوايا الحادة وإعلاناتها  التى تشهد على  النمط الإستهلاكى لمجتمعها  وأشجار النخيل الرأسية المزروعة بإنتظام  .. وبرغم أن جو اللوحة يوحى بشمس مشرقة إلا أن نوع الأشعة ودرجة الظلال وشكل السماء يوحى بجو المدينة المغطى بغلالة من المخلفات الغازية الناتجة عن ذروة عصر التصنيع.  


فى لوحة كوربيه نرى حبه للطبيعة ورغبته فى التوحد معها وفى لوحة بلايك نرى عدم تعاطفه مع المدينة  الأسمنتية  أسيرة عصر المجتمع الإستهلاكى .. وكأننا هنا أمام إثنان من مخرجى السينما الكبار الذين تناولا نفس القصة بنفس مجموعة الممثلين ..  ولكن الأول صورما يعشقه وصور الثانى ما يزدريه.


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات