القائمة الرئيسية

الصفحات

 



عندما قرأ الفنان الأسبانى سلفادور دالى ( 1904 – 1989 ) وهو ما زال فى سن العشرين  مانيفستو الحركة السيريالية الذى كتبه الكاتب والشاعر ومؤسس ومنظر الحركة " أندريه بريتون " عام  1924  قرر على الفور أن ينضم إليها وأصبح فى وقت قصير من أشهر فنانى الحركة على المستوى الجماهيرى ولهذا أعلنه بريتون زعيم الحركة المتوج .. إمتلك دالى عينا فوتوغرافية وقدرة فائقة على الرسم مع خيال واسع وقدرة فذه على مزج الحلم بالواقع .. وكانت أفكاره الجامحة وغرابة مظهره وعبثية أطواره تجذب الصحافة وتروق للجماهير .. وبعد عقد من الزمان توترت  العلاقة بينه وبين حركة السيرياليين لتهكمه على أفكارهم اليسارية وإعجابه بشخصية هتلر وميوله الفاشية وتم فصله من الحركة عام 1934 .. ولكن دالى بشهرته العريضه وذاته المتضخمة  لم يبالى وأعلن " أنا السيريالية " .. وعندما رحل دالى إلى  الولايات المتحدة  عام 1940 وجذبته الحياة فيها بثرائها ولهاثها وراء كل غريب ومثير .. تهكم  بريتون على جريه وراء المزيد من الشهرة والمال بإعادة ترتيب حروف إسمه لتصبح " أفيدا دولارز " ومعناها النهم للدولارات . 


الفنان سلفادور دالى
الفنان سلفادور دالى


رسم دالى لوحتة  الشهيرة " إصرار الذاكرة " عام 1931 فى أوج الحركة السيريالية .. وهى اللوحة التى جعلت الساعات الرخوة  من علامات السيريالية المعروفة على المستوى الجماهيرى وتم إستعاراتها فى شتى المجالات من أفلام السينما والإعلانات إلى الطباعة على المنسوجات ورسوم الكارتون .. وحتى دالى ذاته اللاهث وراء كل ما يجلب الشهرة رسمها بعد ذلك فى العديد من اللوحات .. وقد قال دالى عن مغزى ذوبانها ورخاوتها إنها " مثل شرائح سمك موسى التى ستبتلعها أسماك قرش الزمن الميكانيكى "  ..  وربما ما جعلها من أكثر أعماله شهرة سواء فى دائرة متذوقى الفن أو خارجها هو غرابتها الواضحة وسهولة قراءتها النسبية حتى بالنسبة لغير متذوقى الفن .. علاوة على أن موضوعها يمثل أكثر الألغاز الكونية غموضا وهو الزمن .. خاصة أنها  فى زمنها كان العالم ما زال مأخوذا بما كشفه أينشتين فى نظرية النسبية الخاصة عن العلاقة بين المكان والزمان ونسبية عنصر الزمن .. وقد قال دالى بسرياليته المعهودة أن الفكرة داهمته وهو يشاهد قرص من الجبن الكمامبير يذوب تحت أشعة الشمس. 


مثل العديد من لوحاته يستعير دالى المشهد من مدينته التى عشقها منذ طفولته وعاش فيها معظم حياته " كاداكيز " المدينه الساحلية المطلة على البحر المتوسط بشواطئها الصخرية .. فى اللوحة مشهد لشاطئ صخرى لبحر تحوطه الجبال وعليه تستوى مجموعة من الأشياء .. ظلال الأشياء  تنبئنا بأن الشمس أعلى خط الأفق خارج إطار اللوحة يسار المشهد .. مقدمة اللوحة معظمها غارق فى الظل وكأنها تحت سفح جبل ضخم إلا أن ضوء الشمس يخترق ثناياه  لينير أجزاءا متفرقة هنا وهناك  ... فى المقدمة على اليسارصخرة مسواة على هيئة مكعب  أو متوازى مستطيلات لا نستطيع أن نجزم أيهما غرست فيها شجرة جرداء .. وخلفهما بلاطة مستطيلة ملساء ..  مسجى على الأرض مسخا لا نعرف كنهه ولكن نميز له أنفا ورموشا طويلة  وقد لان جسمه فتكوم فوق نتوء صخرى .. ما يشدنا فى المشهد هو مجموعة من ثلاث ساعات لانت أجسامها  كما لو كان معدنها قد تعرض لحرارة  أذابته ولكنها  لم تغير من شكلها وقد توقفت عقاربها عند أزمنة مختلفة .. أحداها معلقة على فرع الشجرة والثانية على حد الصخرة المكعبة  والثالثة على جسد ذلك المسخ  .. على الساعة الثانية  حطت  ذبابة  ألقت بظل شبيه بظل إنسان على سطحها. 


لوحة إصرار الذاكرة للفنان سلفادور دالى
لوحة إصرار الذاكرة للفنان سلفادور دالى 


مقابل هذه المجموعة من الساعات اللينة ترقد فى مقدمة اللوحة ساعة برتقالية لم يصبها ما أصاب الأخريات فمعدنها ما زال متماسكا إلا أنها مغطاة بمجموعة من النمل  يبدوا أنه مشغول بمحاولة إختراقها وتفتيتها.


المشهد سيريالى بإمتياز .. بمكوناته الغريبة وألوانه البرتقالية والصفراء والزرقاء العجيبة  والذبن يضعوا المتلقى فى حالة ما بين السبات  واليقظة .. والحالة الرخوة للساعات والمسخ  والذبابة والنمل  وإن كانت كلها عناصر تعطى معنى التحلل وجبروت مرور الزمن إلا إنها فى ذات الوقت تؤكد الإحساس بحالة هلوسة  وهذيان الأحلام .. ويؤكد دالى هذا بالعنوان الذى أعطاه للوحة وهو عن إصرار الذاكرة على إستعادة المشاهد التى تتبدى فى الحلم  فى المرحلة الضبابية ما بين السبات واليقظة .. وحتى إلى ما  بعد المرور إلى حالة اليقظة.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة منها


بعد أكثر من عقدين من الزمان بعد قنبلة هيروشيما  وإنتهاء الحرب العالمية الثانية وبزوغ عصر الذرة عاد دالى إلى أسبانيا عام 1948  وأعلن عودته إلى الكنيسة الكاثوليكية  وبداية مرحلة  " التصوف الذرى " وأصبح مهووسا بفكرة أن جميع الأشياء مكونه من ذرات يفصل بينها فراغ .. وكان يقول أن الذرة هى  غذاؤه المفضل للأفكلر وبدأ يرسم أشياءا مكونه من أجزاء مفتتة وكأنها الذرات مثل لوحته العجيبة  " السرعة القصوى لعذراء روفائيل " .  


فى عام 1954  فى خضم مرحلته الذرية أنجز دالى لوحة ثانية بنفس تكوين اللوحة السابقة وأسماها " تفكك إصرار الذاكرة "  وفيها نرى هوسه بتفكيك الأشياء إلى جزيئات .. اللوحة لنفس مشهد لوحتة السابقة ولكنه كأنه العالم بعد الطوفان وقد غمرت المياه كل شيئ إلا أعالى الجبال .. ويرى المشاهد ما يحدث تحت سطح المياه وأعلاها وكأنها صورة مأخوذة من مجلة " الناشيونال جيوجرافيك " .. تفككت مكونات مقدمة اللوحة الغارقة تحت سطح المياه إلى قوالب ومستطيلات وكأنها تتفكك إلى مكوناتها الأساسية التى تتحرك فى صفوف هندسية منتظمة نحو الأفق وقد تحول بعض منها إلى إسطوانات مدببة مثل القذائف .. وإنخلعت الشجرة وتفككت طافية نحو السطح وإنخلعت عقارب الساعات وتفككت أطرها .. أما المسخ  فقد غاص إلى القاع وبدأ يتحلل وأعلاه تطفو سمكة والتى كانت عند دالى تمثل الحياة ولكنها هنا مقلوبة على جنبها وكأنما إنسحبت منها الحياة.


لوحة تفكك إصرار الذاكرة للفنان سلفادور دالى
لوحة تفكك إصرار الذاكرة للفنان سلفادور دالى 


يبدو لنا واضحا فى المقارنة بين اللوحتين كيف تحول دالى عن السيريالية .. ففى لوحته الثانية لا نرى فيها   ذلك الإحساس بعدم الإستقرار الناتج عن حالة الهلوسة والغموض والإحساس بسيطرة الحلم واللاوعى التى تغلف لوحته الأولى .. وينطبق هذا أيضا على أعمال مراحله الأخيرة التى راح يرسم فيها مشاهد الصلب والعشاء الأخير والعذراء والطفل بقدرته الفائقة على التصوير والإلمام بالتفاصيل وخياله الواسع ولكن هذه الأعمال فقدت الحس السيريالى الذى كان يميز أعماله السابقة  .. وقال مؤرخوا الفن عن هذه المرحلة  أن السيريالية خسرت دالى وكسبته الكنيسة.


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات