القائمة الرئيسية

الصفحات

 


فى عام 1816 أبحرت ثلاثة من السفن التجارية الفرنسية تتصدرها الفرقاطة "ميدوسا " التى كان يتولى قيادتها القبطان هيوز دى شوميريه قاصدة مستعمرة السنغال فى غرب أفريقيا .. قبلها بعامين كانت الثورة الفرنسية قد شهدت إنتكاسة وعادت الملكية وتولى لويس الثامن عشر الحكم وكانت فرنسا تمر بفترة قلاقل وصدام بين الجمهوريين بقيادة نابليون والملكيين .. وعم البلاد الكثير من الفساد والإنحيازات السياسية ومن ضمنها كان تعيين دى شوميريه لقيادة الميدوسا برغم أن خبرته كانت دون المستوى وحصل على المنصب لعلاقاته بالنخبة الحاكمة وقيل وقتها بإيعاز من الملك لويس الثامن عشر شخصيا.


لوحة طوف الميدوسا للفنان  ثيودور جريكو
لوحة طوف الميدوسا للفنان  ثيودور جريكو



كانت السفن تقل خليط من المدنيين من النخبة والطبقة المتوسطة والطبقات العاملة والعسكريين ..ونتيجة لخطأ فى الملاحة من دى شوميريه إنفصلت الميدوسا عن بقية الأسطول وإنحرفت بعيدا عن مسارها وجنحت على رمال الشاطئ الأفريقى وفشلت محاولات تخليصها فقرر دى شوميريه إستخدام قوارب النجاة التى كانت غير كافية لإستيعاب الجميع فإستأثرت النخبة بالقوارب وتم بناء طوف خشبى على عجل للباقين .. وكانت الخطة هى أن يتم سحب الطوف بواسطة قارب القيادة الذى يستقله دى شوميريه ولكنه فى تصرف جبان قطع حبل الجر وترك طوف الميدوسا بركابه بمفردهم يواجهون مصيرهم.


كان عدد ركاب الطوف مائة وسبعة وأربعون من خليط غير متجانس من الظباط والجنود والبحارة والمدنيين .. وسرعان ما نفذت المؤن ودب الشقاق وبدأ الصراع على البقاء فثار المدنيين على الظباط والجنود الذين كانوا يتولون القيادة فقتلوهم ثم بدأ القتل الممنهج لكل مريض أو ضعيف .. وجن البعض وألقى الأخر بنفسه فى البحر وتحول الأخرين إلى آكلى لحوم البشر فمزقوا لحم أشلاء الموتى وأكلوها وعندما تم إنتشال الطوف بعد ثلاثة عشر يوما بواسطة سفينة عابرة بالصدفة البحته كان عدد الناجين خمسة عشر فقط.


أثارت الفاجعة موجة من السخط بين جموع الفرنسيين وأصبحت رمزا لفشل نظام الحكم وإتخذها الجمهوريون دليلا على فساد النخبة الملكية .. وكان الفنان الفرنسى الشاب ثيودور جريكو (1791-1824) من الجمهوريين الذين هزتهم هذه الفاجعة .. وكان جريكو فى سن الرابعة والعشرين ما زال يحاول أن يجد موضوعا للوحة التى ستضعه فى المكانة التى يطمح إليها فى حركة الفن الفرنسى ووجد فى طوف الميدوسا ضالته المنشودة.

لوحة بورتريه شخصى للفنان  ثيودور جريكو
لوحة بورتريه شخصى للفنان  ثيودور جريكو



إنكب جريكو على مشروعه الفنى بكل جوارحه فإلتهم كل ما كتب عنها وسعى لمقابلة الناجين ليلم بتفاصيل الأحداث من شهود عيان فلجأ إلى مهندس وطبيب من الناجين كانا قد سجلا الوقائع وكذلك بنجار السفينة الذى لعب الدور الأساسى فى بناء الطوف فإستعمله لبناء نموذج بالحجم الطبيعى للطوف وضعه فى مرسمه .. كما بدأ فى عمل دراسات تحضيرية للوحة تجاوز عددها المائة دراسة ما بين رسوم ولوحات زيتية .. ومن أهم الدراسات التى أنجزها جريكو كانت للمرضى المحتضرين فى مستشفى قريبة من مرسمه ودراسات لجثث الموتى فى حالاتها المختلفة أتمها فى المشرحة التابعة للمستشفى .. وكان يأخذ معه أجزاءا مبتورة إلى مرسمه لكى يدرسها وبعضها يتركها أياما لكى يدرس تأثير الزمن ومراحل التحلل والتغيير فى الشكل واللون .. كما زار ساحل البحر لكى يدرس طبيعة الأمواج أثناء تقلبات الطقس .. والمرء لا يسعه إلا أن يصاب بالدهشة الممزوجة بالإعجاب بكم التخطيط والجدية والجهد الذى بذله جريكو فى الإحاطة بتفاصيل الموضوع قبل أن يبدأ فعليا فى تنفيذ لوحته.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


فى عام 1818 كان جريكو مستعدا لتنفيذ اللوحة التى كان ينوى عرضها فى صالون الأكاديمية .. وقد قرر أن تكون لوحة صرحية فإستقر على مساحة الخمسة أمتار طولا والسبعة أمتار عرضا .. ولكى يركز تماما فى العمل حلق شعر رأسه مثل النساك وعزل نفسه فى مرسمه لا يستقبل أحدا وبدأ العمل .. ونفذ اللوحة بطريقة غير تقليدية فقسم هذه المساحة الهائلة إلى مربعات ولأن اللوحة بعد هذا الكم من الدراسات كانت تفاصيلها فى ذهنه فقد عمل من رسم تخطيطى للوحة وكان ينهى كل مربع من اللوحة ثم ينتقل إلى الذى يليه حتى أنهى اللوحة لتعرض فى صالون باريس عام 1819 .


اللوحة تمثل الساعات الأخيرة فى رحلة الطوف المنكوب وهى تقف عند أكثر اللحظات درامية لركابه التعساء عندما لاحت فى الأفق سفينة وبرق وميض من الأمل فى أن يتم إنتشالهم من ذلك الجحيم المخيف .. على قمة هرم من الأجساد البشرية فى يمين اللوحة يقف ذلك البحار الزنجى وهو يلوح بقطعة من القماش محاولا جذب إنتباه السفينة التى يبدو جزء من صاريها فى الأفق .. على يسار اللوحة ينتصب هرم آخر يسيطر على التكوين مكون من شراع مثبت على صارى يخترق قمة اللوحة مثبت بحبلين يصنعان هرما كبيرا قاعدته مسطح الطوف والأجساد المسجاة عليه .. هناك تقابل واضح بين الضوء الأصفر البرتقالى الذى يغلف الهرم الأيمن الذى يمثل الأمل فى النجاة وبين الألوان البنية الداكنة للهرم الأيسر والخضراء القاتمة للموجة العاتية التى تحاول إبتلاع الطوف والتى تمثل اليأس .. ويقف الشراع بينها وبين ركاب الطوف كرمز للصمود الذى أعانهم على البقاء أحياء.


اللوحة مرسومة من منظور تحت خط الأفق لكى تبتلع المشاهد داخلها .. كما أن كل العناصر الموجودة فى مقدمة اللوحة مصممة لكى تأخذ عين المشاهد إلى عمق اللوحة .. الجثتين على اليمين وعلى اليسار يصنعان محورين يأخذان العين إلى المركز البصرى للوحة .. والجزء الظاهر من الطوف فى المقدمة يكاد يخترق فراغ المشاهد لكى يسحبه معه إلى عمق اللوحة .. وتتجلى هذه الدراما الإنسانية فى هذا القوس الصاعد الذى يبدأ من الجثة المبتورة فى الجزء الأسفل يسار اللوحة مرورا بجثة الشاب وأبيه المكلوم صعودا عبر الأجساد الضارعة إلى حيث الأمل فى الجسد الأسمر الملوح بقطعة القماش .


لوحة طوف ميدوسا فى مكانها فى متحف اللوفر 



كانت اللوحة لطمة على وجه المجتمع الفرنسى عندما تم عرضها .. فهى تنتمى لذلك النوع من اللوحات التى تتناول الأحداث التاريخية والتى كانت تعتبر قمة التعبير الفنى فى وقتها وكان السائد أن تكون عن القصص الأسطورية التى تمثل القيم العليا .. ولكننا هنا أمام حدث معاصر وأبطاله رجال عاديون ولا توجد هنا قيم عليا بل هو الإنسان فى أحط حالاته عندما يضطر للقتل وأكل لحم أخيه للبقاء حيا .. ولكى يزيد جريكو الطين بلة فقد وضع على القمة كرمز للصمود والأمل بحار زنجى فى عصر كان الرق فيه لم يجرمه القانون بعد .. كانت لوحة سياسية إجتماعية تعرى فشل النظام وتدين التفرقة وتعلى من قيم الثورة الفرنسية فى الحرية والعدل والإخاء.


تضاربت ردود الأفعال عند عرض اللوحة ما بين ساخط ومتحمس .. ولم يقتنى أحد اللوحة ولم تضع جريكو فى المكانة التى كان يسعى إليها ومات بعدها بسنوات فى سن الرابعة والثلاثين معدم ومحبط .. وبعد وفاته إقتناها متحف اللوفر وأصبحت اليوم من أشهر وأقيم مقتنياته وعلامة فارقة فى تاريخ الحركة الرومانتيكية.


بقلم الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد
 الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات