القائمة الرئيسية

الصفحات

جزيرة الموتى من بوكلين الى راخمانينوف

 

رحلة الحياة تتبع مسار الشمس من الشرق إلى الغرب .. من الحركة إلى السكون الأبدى على جزيرة فى أقصى الغرب .. تقطعها السفينة على بحر حالك السواد .. ساكن صامت كالموت نفسه .. لاصوت إلا ضربات مجذاف النوتى على إيقاع منتظم عنيد .. وجسد خامد وروح قلقة تترقب الوصول إلى مستقرها الأخير .. لتنعم هناك بالسكينة والسلام الأبدى.


لوحة جزيرة الموتى للفنان السويسرى أرنولد بوكلين
لوحة جزيرة الموتى للفنان السويسرى أرنولد بوكلين


هذا التصور لرحلة الحياة والموت يظهر فى كثير من الحضارات القديمة .. رحلة الإله " رع " على قاربه عبر السماء من الشرق إلى الغرب فى الحضارة المصرية .. وفى الحضارة الإغريقية ومن بعدها الرومانية هو النوتى " كارون " الذى يحمل الموتى فى قاربه ليعبر بهم " بحر ستايكس " إلى الحياة الأخرى لقاء أجره عملة معدنية كان أهل المتوفى يضعوها فى فم الجثة .. بينما هو فى جحيم دانتى يعبر بأرواح المخطئين بحر أخيرون إلى قاع الجحيم .. وفى حضارة " الكلت " فى بريطانيا هو النوتى الذى ينقل الأرواح إلى جزيرة الموتى التى تقع فى أقصى الغرب.


لا بد أن هذا التصورات تداعت فى مخيلة الفنان السويسرى أرنولد بوكلين ( 1827-1901) عندما زارته الأرملة مارى بيرنا فى مرسمه فى فلورنسا عام 1880 وكان وقتها يعمل على لوحة قال عنها " لوحة تدخلك إلى عالم الحلم " .. سيطرت اللوحة على حواس الأرملة بجوها الذى يغرق فى حالة غامضة حالمة وطلبت منه أن يرسم لها نسخة لتتذكر بها زوجها الراحل ولذلك أضاف بوكلين إلى اللوحة هذا القارب العجيب ليتغير مغزى اللوحة إلى " جزيرة الموتى " ولتصبح بعدها أشهر لوحة له .. هذه اللوحة أو إذا شئنا الدقة مجموعة اللوحات ( أنجز منها خمسة لوحات بعدها فى سنوات متعاقبة ) تمثل روح هذه الأسطورة بإقتدار .. فهى بجوها القاتم وتكوينها الذى يتجاوز عالم الواقع تغرق المشاهد فى حالة حالمة وكأنه أمام النهاية المحتومة التى تؤرقه وينحيها جانبا خشية هول المواجهة .


على بحر حالك اللون وخلفية من سماء قاتمة تطفو تلك الجزيرة الصخرية بتكوينها الشامخ الصارم .. يغمرها ضوء غامض لا ينتمى إلى عالمنا فيضيئها بلون نحاسى عجيب .. فى وسط الجزيرة تنتصب مجموعة من أشجار السرو مثل مردة سود من الجن يستقبلون الوافدين بتلك الرسالة التى لا لبس فيها .. مثواكم هنا إلى الأبد .. وفى وسط كتلة الأشجار فى المركز البصرى للوحة شق طولى من اللون النحاسى يشى بمدخل إلى عالم وراءه لا نعرف كنهه.


تطفو مركب أمام الجزيرة ويبدو لنا ظهر النوتى بمجذافيه المبسوطين وأمامه ينتصب جسد المتوفى أو ربما روحه متلفع بكفن شاهق البياض وأمامه نعش مسجى بعرض مقدمة المركب .. ويبدو وكأن هذا الجسد المتشح بالبياض يوجه نظره بإتجاه ذلك الشق الواقع فى وسط الأشجار .. من وضعية المركب والمجاذيف وهيئة ركابها لا نعلم ما إذا كانت فى حالة حركة بإتجاه مدخل الجزيرة أم أنها ساكنة تنتظر الإذن بالدخول.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


على جانبى الجزيرة تقف هذه البنايات المصقولة ناصعة البياض ويتضاد لونها وملمسها مع صخور الجزيرة النحاسية اللون خشنة الملمس .. وتكون هذه البنايات مع المركب مثلثا من اللون الساطع يضيف إلى المشهد غموضا على غموض.


لوحة جزيرة الموتى للفنان السويسرى أرنولد بوكلين
لوحة جزيرة الموتى للفنان السويسرى أرنولد بوكلين


ألهبت هذه اللوحة خيال كل من شاهدها عند عرضها وإمتد هذا التأثير لعقود بعد ذلك .. فطبعت وبيعت منها آلاف المستنسخات .. وأثرت فى خيال الفنانين والكتاب والمفكرين .. ووضع كلا من لينين وسيجموند فرويد مستنسخ منها فى مكتبهما .. وهام أدولف هتلر بها فإبتاع النسخة الثالثة من المجموعة ووضعها فى مفوضية الحزب النازى .. وإقتبس سلفادور دالى منها لوحة أسماها " اللوحة الحقيقية لجزيرة الموتى لأرنولد بوكلين فى ساعة الغروب " .. ودخل هيكلها العجيب فى تصميم خلفية عشرات المشاهد السينمائية والمسرحية .


فى عام 1907 شاهد المؤلف الروسى العظيم سيرجى راخمانينوف ( 1873-1942) مستنسخ بالأبيض والأسود للوحة بوكلين وكان تأثيرها عليه كبيرا بحيث بدأ على الفور فى تأليف قصيده السيمفونى الشهير " جزيرة الموتى " والذى إنتهى من تأليفه عام 1908 .. كان راخمانينوف فى ذروة طاقته الإبداعية فى هذه الفترة فكان قبلها قد ألف سيمفونيته الثانية وبعدها الكونشرتو الثالث للبيانو والأوركسترا .. وأنا أعتبرهذه الأعمال الثلاثة أعمق وأعظم أعماله السيمفونية .. وربما تنضم إليها رقصات سيمفونية وكونشرتو البيانو الثانى وسيمفونته الثالثة.


يتجاوز راخمانينوف فى مقطوعته مضمون اللوحة فيحولها إلى المغزى الأشمل لثنائية الحياة والموت والمقابلة بين الرغبة الجامحة للحياة والنهاية الحتمية للموت .. تبدأ المقطوعة خافتة وكأنها آتية من قرار سحيق على الوتريات الغليظه بمصاحبة ضربات ايقاعية على التيمبانى ( الطبلة ) لتشى بجوغامض مغلف بالسواد ثم تتحول إلى جملة إيقاعية توحى بضربات المجذاف يشق المياه .. وتستدعى هذه الجملة شذرات من لحن الموت الشهير " دايس إيرى " أى " يوم القيامة " من القداس الجنائزى اللاتينى والذى إستعمله المؤلف الفرنسى الكبير هكتور بيرليوز فى ختام سيمفونيته العظيمة " الخيالية " ثم إستعمله بعدها الكثير من المؤلفبن من المجرى فرانز ليست إلى الروسى بيتر إليتش تشايكوفسكى .. وكان راخمانينوف مأخوذا به وظهر فى العديد من مؤلفاته .


الجملة المتكررة الرتيبة كضربات المجذاف تدفعنا إلى الأمام ولكن بدون هدف وكأن ضباب كثيف يعيق الرؤية .. وتزداد كثافة الأصوات وتظهر جملة تحاول أن تشق كثافة الظلام ثم تخبو وتتكرر ثانية بسطوع أكثر ثم تخبو.. ويزداد النبض المصاحب برعشات على الوتريات وكأنه تموجات على سطح المياه .. ثم تتجمع الأصوات البراقة لتكون وحدة فى محاولة لتغيير هذا الجو القاتم .. تأخذ آلة الفيولينه (الكمان ) أكثر آلات الأوركسترا أنثوية المبادرة فتسطع فى مقطع طويل مملوء بالشجن وكأن الروح تستعيد لحظات المتعة والمرح فى حياتها الأرضية أو كأنها تتشبث بالحياة وترفض النهاية المحتومة التى تنتظرها خلف ضباب لم يينقشع بعد .. ولكن الإيقاع العنيد يجرفها وتزداد كثافة الأصوات وتزعق النحاسيات مع ضربات الطبول متوعدة منذرة وكأنها تسحق كل محاولة للروح للعودة إلى الوراء ويتكرر هذا الشد والجذب إلى أن تسكن الأصوات وينقشع الغمام معلنا ظهور جزيرة الموتى .. ويتأكد هنا لحن الموت " دايس إيرى " فيتكرر مقطعه الأول مرارا فى إصرار عنيد وكأنه يؤكد حتمية النهاية .. ولكن بعد الهدوء تتحول الموسيقى إلى الحياة ثانية فى محاولة خابية لإستعادة البهجة على صوت آلات النفخ الخشبية وكأن الروح تودع ذكرياتها للمرة الأخيرة ثم يظهر لحن الموت جليا للمرة الأخيرة وتفقد الموسيقى طاقتها فتخبو وتنسحب مسلمة بقدرها ويخفت صوت الأوركسترا رويدا إلى السكون


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات