القائمة الرئيسية

الصفحات

ذكريات فنان مصرى للزمن الجميل جـ 2

 



رحلة المتروإلى وسط البلد ( الجزء الثانى ) 


يصل بنا المترو إلى أهم محطة فى مساره .. كوبرى الليمون أو باب الحديد حيث تقع محطة مصر بمبناها الرصين .. وينتصب أمامها فى الميدان تمثال المثال العظيم مختار "نهضة مصر" يؤطره مستطيل  سندسى أخضر  .. كان مبنى محطة مصر مصمم على الطراز الإسلامى الممزوج بالطراز الكلاسيكى الحديث ويقترب كثيرا فى هيئته من مبانى مصر الجديدة .. وكانت ألوانه من البيج والبنى تتكامل مع التصميم وتزيده رصانة وجمالا .. وكان تمثال "نهضة مصر" بأسلوبه الكلاسيكى  الحديث يتناغم مع تصميم الميدان .. هذا التمثال الذى ساهم الشعب بجميع  طبقاته فى تكلفة إنشائه لكى يحمل روح ثورة 1919 كان يعطى معنى التطلع لمستقبل ناهض ومشرق لمرتادى الميدان من المسافرين والعابرين .. وبعد ثورة يوليو 1952 تم إعادة تخطيط الميدان بالكامل وتم نقل التمثال من موقعة إلى مكان آخر بالقرب من جامعة القاهرة ليحل محله تمثال رمسيس .. ويعاد تصميم واجهة المحطة لتصبح من اللونين الأبيض والأزرق .. ويفقد ميدان رمسيس كما أصبح يطلق عليه الكثير من رصانتة وجماله تحت دعوى التطوير.. وكأن التطوير هو الهدم وإعادة البناء .. وأن الحفاظ على التراث وترميمه مفهوم عقيم لا يناسب العصر الحديث .. وأصبحت هذه عادة شبه متأصلة فقدت بسببها مصر الكثير من معالمها الهامه  فذهبت إلى غير رجعة حديقة الأزبكية العالمية المستوى ومعظم مساحة حديقة الأورمان التى كانت أعجوبة زمانها .. وتدهورت حديقة الحيوان التى كانت تصنف أجمل حدائق العالم إلى مستوى مزر .. وفقدنا وما زلنا نفقد مبان أثرية وقصور تراثية  لا تعد ولا تحصى .. وفقدت مصر على مر العقود الكثير من جمالها ورونقها.


عزيزى القارىء يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا


صورة قديمة لتمثال نهضة مصر
صورة قديمة لتمثال نهضة مصر



بعد ميدان كوبرى الليمون ينعطف المترو يسارا فى شارع عماد الدين ليقابلنا مهرجان من الأضواء والصور .. تتراص على الجانبين عمارات فخيمة ومسارح ومقاهى ودور سينما .. أضواء وألوان وصور لمشاهير النجوم  على الجانبين .. كان شارع عماد الدين وقتها هو ويست إند أو برودواى الشرق .. مركز الملاهى الليلية والمسارح ودور السينما .. أذكر جيدا مسرح الريحانى ومسرح رمسيس وسينما ديانا وقهوة عماد الدين وسينما كليبر ومحل دانش ذو الذوق الراقى الذى كان يملكه زوج أختى .. ومحل عيد للملابس الداخلية القطنية الفاخرة الذى كان صاحبه جارنا فى ميدان سفير وكان إبنه فريد وإبنته فريدة من أعضاء شلة الحته التى كانت تتخذ من رصيف عمارتنا مقرها فى أمسيات الصيف.


نترجل من المترو فى موقفه قبل تقاطع شارع فؤاد ( 26 يوليو حاليا )  ونكمل الرحلة سيرا على الأقدام متجهين إلى مكان أبى المفضل حديقة جروبى شارع عدلى .. نعبر شارع فؤاد  إلى الجهة المقابلة من شارع عماد الدين ثم ننعطف يسارا فى شارع عدلى حيث تقع حديقة جروبى .. كان مدخل جروبى قبل حريق القاهرة فى يناير 1952 عبارة عن ممر ضيق بين مبنيين .. ندخل الممر المعتم الذى ينفتح فى نهايته فجأة على باحة فسيحة مقسمة إلى مساحات مكسوة بالزلط الصغير تتراص فيها المناضد والكراسى الخيزران وتفصلها مماشى مبلطة بالبلاط الملون .. وعلى اليسار يقع مبنى السيرفيس والكوخ السويسرى.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة منها


ما نكاد نجلس حتى يصيبنى الملل بعد دقائق فاقوم من مجلسى وأدور فى أرجاء المكان .. أحب ثلاجة الجاتوهات .. أتمتع برؤية أشكالها المختلفة ولم أكن أعرف من أسماءها إلا "الميل فيى" المغطى بطبقة السكر .. كنت سعيد بمعرفتى بالإسم الذى شرحت لى أختى معناه وغالبا أطلب قطعة منه ليس فقط لأنها المفضلة لدى ولكن لكى أتباهى بمعرفتى بالإسم .. بعد أن أمل من عد قطع الجاتوه أتجه إلى المنطقة المحرمة .. الكوخ السويسرى .. كان الكوخ السويسرى مبنى حول شجرة جميز ضخمة من سيقان الشجر على طراز أكواخ جبال الألب .. وفى الداخل بار من الخشب يتجانس مع جذع  الشجرة وفى الناحية الأخرى من البار مدفأة كانت تحرق فيها الأخشاب فى الشتاء لتدفئة المكان .. كان جو المكان أسطوريا  بإضاءته المعتمة  وشجرته العتيقة  وبريق مئات النجوم المحبوسة داخل زجاجات الخمور المصطفة خلف البار .. وكنت أشعر داخله كأنما ولجت عالما سحريا .. ولكن كان هناك عقبة كئود .. فلأنه مخصص لتقديم الخمور فقد كان محرما على الأطفال دخوله .. وكان على أن أتحين الفرصة المناسبة التى يكون فيها البارمان مشغولا بالزبائن لكى أنسل إلى الداخل واجد مكان أنزوى فيه خلف جذع الشجرة إلى أن يكتشف أمرى فأطرد من جنة عدن . 


مكان آخر غير جنة عدن الكوخ السويسرى كان يداعب خيالى .. مكتب شركة طيران كان يقع بجوار مدخل جروبى فى شارع عدلى وأعتقد أنه كان لشركة ساس ..كنت ألمح نموذج لطيارة ركاب متقن الصنع موضوع فى نافذة المكتب وأحلم بتفقده والإستمتاع بتفاصيله الدقيقة عن قرب.. المعضلة الكبيرة  أنه يقع خارج حدود حديقة جروبى وهى المنطقة المسموح لى بالتحرك فيها .. ولأن الشيطان شاطر وهو بالتأكيد أشطر منى فقد وزنى ذات ليلة على أن أنسل من الحديقة وأذهب لكى أشاهد الطائرة عن قرب .. عبرت الممر المعتم  والرهبة تملأ قلبى وخرجت إلى براح شارع عدلى وأنا أعاهد نفسى بإلقاء نظرة عاجلة على الطائرة وأعود سريعا ولا من شاف ولا من درى .. ولكن ما ان أصبحت داخل مكتب شركة الطيران حتى دخلت إلى عالم آخر توقف فيه جريان الزمن .. كتيبات صغيرة مصورة لطائرات وبلاد بعيدة ومضيفات حسناوات ونموذج الطائرة أمامى ألمسه وأتفحصه .. والغريب فى الأمر أن موظف الشركة أهملنى تماما وكأن منظر طفل فى السابعة من عمره يجول فى المكان من الأمور العادية التى تحدث كل يوم .. وفجأة أفقت على هيكل أبى يسد مدخل المكتب غاضبا ممتقع الوجه وشدنى من يدى بدون أن يتفوه بكلمة وعدنا إلى حديقة جروبى لأتلقى موال من الزجر والتوبيخ من أمى .. وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التى يحدث فيها هذا .. وبعد فترة حدث حريق القاهرة وأحترقت حديقة جروبى ومعها الكثير من مبانى وسط البلد .. وبعدها أعيد بنائها بنمط جديد وأضيف لها الجزء المكيف الذى يفضى إلى شارع ثروت .. ومضى عهد وجاء عهد جديد.


بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
 الفنان / سمير فؤاد


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات