القائمة الرئيسية

الصفحات

 

اكشف عن وجهك.. قل لى من أنت ؟ .. قريب أم غريب ؟.. عدو أم صديق ؟.. اكشف لى عن نواياك ودعنى أطالع مكنون مشاعرك.. إعطنى الوسيلة لكى أتخذ موقف تجاهك ..هل أمد يدى للسلام .. أم أسحب سلاحى للقتال ؟


لوحتين للفنانين البريطانيين جراهام سذرلاند ( 1903-1980)  على اليمين  - وفرانسيس بيكون ( 1909 -1992 ) على اليسار
لوحتين للفنانين البريطانيين جراهام سذرلاند ( 1903-1980)  على اليمين  - وفرانسيس بيكون ( 1909 -1992 ) على اليسار



لا يحتاج المرء الى جهد كبير لكى يكتشف أن الإنسان منذ أن بدأ يُنمّى مهاراته فى التصوير والنحت وهو شغوف ومولع بتمثيل الوجه البشرى .. استعمله فى طقوسه وعباداته .. وتُمثل الآلهة المعبودة على شاكلته .. ووضعه أجدادنا الفراعين على أغطية توابيتهم لكى ترشد الروح سبيل العودة إلى الوعاء الجسدى .. ولا يحتاج المرء أيضا إلى جهد مذكور لكى يكتشف سر هذا الولع ومصدر هذا الشغف .. فالوجه صنو للهوية .. فنحن نتعرف على الآخر وعلى أنفسنا عن طريق تقاطيع الوجه وتضاريس الملامح.


لو تأملنا عن كثب تركيبة وجوهنا فسنكتشف أنها تشترك مع جميع الفقاريات فى التركيبة الأساسية .. عينان فى أعلى الرأس سواء أمامية أو جانبية .. وأسفلهما أنف يليه فم .. وأذنان على جانبى الرأس .. هذه التركيبة مؤهلة تماما لعملية القنص وتتبع الطريدة وإصطيادها .. الأنف يستنشق رائحتها عبر الهواء لكى يحدد مكانها والأذنان ترهفان السمع لكل ما يدور حولها والعينان تمسحان المنظور لكى تحدد الهدف وتحسبان مسار القنص ثم الفم للقبض على الفريسة وقتلها وإلتهامها .. أى أن هذه التركيبة مصممة لكى تضمن للمخلوقات افضل إحتمالات البقاء سواء فى صيد الفريسة أو الهروب من الخطر والدفاع عن النفس.


تكشف لنا الابحاث الحديثه عن مخ الإنسان أن الجزء المخصص للتعرف على الأشياء فى المخ ينقسم الى جزئين أحدهما مخصص فقط للتعرف على الوجه الانسانى والجزء الآخر مخصص للتعرف على كافة الأشياء الأخرى .. وهذا التقسيم العجيب له ما يبرره .. فنحن نحتاج إلى أن نتعرف على وجه بعينه فى وسط خضم من الوجوه المتشابهة إلى حد كبير فى تركيبتها الأساسية .. بل نحن مطالبون أيضا بالتعرف على مشاعر ونوايا هذا الوجه من خلال فروق طفيفه فى خلجاته .. فالفرق بين ابتسامات الود والسخرية والمكر والغدر طفيفة فى المظهر عميقة فى المخبر .. ولكى يتمكن المخ من أداء هذه ألمهمه العويصة بكفاءة وسرعة فإنه يتعين علية تحليل وتدقيق واستخلاص النتائج من كمية كبيرة من المعلومات بدقة عالية قد تكون نتيجتها الفرق بين الحياة والموت .. إننا نعتمد على هذه الملكة الفذة فى عقولنا فى كل لحظة نتعامل فيها مع الآخر سواء كنا نتكلم نفس اللغة المنطوقة أم لا .. فلغة الوجوه صادقة تخاطب غرائزنا ومشاعرنا الأساسية فنتعاطف ونشك ونتجاوب ونرفض ونحب ونكره من خلال قراءتنا لوجوه الأخرين.


إن تركيبة عقولنا تحدد ما يشد انتباهنا ويستثير مشاعرنا .. والفنون التى نبدعها تعكس هذا الاهتمام وتلك الاستثارة .. ولذلك كان من الطبيعى أن تعكس فنون النحت والتصوير هذا الاهتمام بالوجه الانسانى .. وإذا رجعنا إلى تاريخ الفنون فسنجد أن الوجه الإنسانى يحتل المرتبة الأولى فى التمثيل والتصنيف فلو حاولنا أن نذكر بعض أعظم ما أنتجته الحضارات البشرية من درر فستقفز إلى الذهن رأس نفرتيتى وموناليزا دافنشى ولوحة شخصية لرمبراندت وذات القرط اللؤلؤ لفيرمير وقناع توت عنخ أمون ولوحة شخصية لفان جوخ وتمثال خفرع .


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


وعبر التاريخ إكتشف البشر هذه الأهمية وتأثيرها الطاغى على الأخرين وإمكانية إستخدامها لخلق صورة ذهنية فى عقل المشاهد فإستخدمها الملوك والقادة للتأثير على شعوبهم فرسموا أنفسهم على هيئة الآلهة على جدران المعابد ونقشوا وجوههم على العملات المعدنية .. وإمتد هذا إلى الأغنياء فصوروا وجوهم على التوابيت ولنا فى وجوه الفيوم مثالا رائعا على هذا .. وفى القرن العشرين وهو عصر الصورة بإمتياز جرى إستخدام هذا على نطاق عالمى غير مسبوق لخلق الشخصية الأيقونة فأصبح العالم من أقصاه إلى أدناه يعرف شارلى شابلن ولوريل وهاردى ومارلين مونرو وغاندى وشى جيفارا .. ووصلنا فى القرن الواحد والعشرين إلى الذروة فى عصر المحمول والإنترنت وأصبح أصدقاء عالم وسائل التواصل الإجتماعى يعرفون وجوه بعضهم البعض ويرسمون صورة ذهنية عن كل منهم وتنحصر العلاقة فى التخاطب عبر الرسائل وأحيانا عبر الفيديو .. وربما تمضى العلاقة وتنتهى بدون أن يرى أحدهم الآخر فى الواقع وجها لوجه .


وكلما كانت الرموز والإيحاءات الإنسانية المحفورة فى العمل الفنى مثيرة لكم أكبر من النشاط العقلى والإنفعالى كان العمل الفنى أشمل وأعمق وتجاوز إطار مكانه الجغرافى وزمانه التاريخى فعندما نشاهد لوحة الصرخة لمونش وهى لوحة بسيطة فى تركيبتها إلا أن خطوطها المتلوية وألتى تقودنا إلى هذا التمثيل الطيفى لوجه فاغر فاه يستثير فينا مشاعر الخوف والوجل وهنا تكمن عظمة اللوحة فى أن تستثير فى عقولنا هذه الأحاسيس البدائية بكم من الخطوط ونزر يسير من الألوان.


لوحتين للفنانين البريطانيين جراهام سذرلاند ( 1903-1980)  على اليمين  - وفرانسيس بيكون ( 1909 -1992 ) على اليسار
لوحتين للفنانين البريطانيين جراهام سذرلاند ( 1903-1980)  على اليمين  - وفرانسيس بيكون ( 1909 -1992 ) على اليسار


وسنطرح مثاليين على التفاوت الشديد فى الأسلوب والمعالجه والحس الإنفعالى وبالتالى الرسائل التى سنستقبلها فى لوحتين لوجهين من أعمال إثنان من كبار فنانى القرن العشرين من نفس الفترة الزمنية ونفس الجنسية وهما الفنانين البريطانيين جراهام سذرلاند ( 1903-1980) وفرانسيس بيكون ( 1909 -1992 ) .. اللوحتين تم تنفيذهما بتقشف شديد فالألوان فى كلا اللوحتين شحيحة والخطوط فى غاية الإقتصاد والتركيز الأساسى هو على بلوغ الهدف من وراء اللوحة بدون أدنى محاولة للإستعراض أو الحذلقة الفنية .. لوحة جراهام سذرلاند واحدة من الدراسات العديدة التى رسمها للسياسى البريطانى الشهير ونستون تشرشل وفيها نقرأ شخصية هذا السياسى المخضرم والعجوز المحنك .. بعلامات حفرتها السنين وشفتان مزمومتان فى إصرار ونظرة هادئة واثقة تتجاوز الرائى وتنفذ إلى ما وراءه مسترجعة أمجاد الماضى وكبواته . أما لوحة فرانسيس بيكون التى رسمها لأحد أصدقائه فنحن هنا نرى عذابات الفنان ذاته فى محاولته للإمساك بجوهر الشخصية .. نحن هنا أمام طاقة متفجرة فالوجه الإنسانى قد تم تشويهه وتفتيته .. دوامات دائرية تسحق الملامح وعيون غائرة تنظر إلى الداخل .. فى لوحة سذرلاند نقرأ شخصية الشخص المرسوم وفى لوحة بيكون نقرأ شخصية الفنان الذى رسمها.

بقلم الفنان / سمير فؤاد

الفنان / سمير فؤاد
 الفنان / سمير فؤاد



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات