القائمة الرئيسية

الصفحات

سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 7

 

الجزء السابع : بين قصر عبود ومدينة العمال بإمبابة

ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا 


بيت مدينة العمال الذى سكنت فيه ، كان من دورين دور ارضى عبارة عن 4 حجرات سكنت انا فى الحجرة البريمو الوحيدة المطلة على الشارع ، بلغة اليوم ( Room With A View ) ، والدور الثانى سكن صاحب البيت عم محمد عبدالعزيزله ولزوجته واولاده ، ولمن لايعرف مدينة العمال فقد أنشأت فى العهد الملكى بتفكير هام وذكى لسكنى عمال المطابع الأميرية ومصانع الشوربجى وصوامع الغلال وتوسعت المدينة اكثر بعد 1952 لأكثر من ضعف المساحة فكان كل اهل المدينة عمال يعملون فى الترسانة والمصانع والمطابع المحيطة فكانت منطقة تستيقظ الخامسة صباحا وتنام بعد العشاء ، سكنوا فيها بالإيجار لمدة 20 عام ثم اصبحت ملكهم ، فبقى من بقى وباع من باع ، أما عم محمد عبدالعزيز رحمه الله صاحب البيت أبن روض الفرج فهو رجل شديد الطيبة ، تشعر انه خارج من افلام الخمسينات الأبيض والأسود ، لايشبهه ولكنك تجد فيه طريقة كلام عبدالفتاح القصرى والشبه القليل


سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 7


 عازف اوكورديون قديم فى شارع محمد على ، قصير القامة ، ربنا فتح عليه واشترى هذا البيت وتخصص بعد ذلك فقط فى صيانة آلات آلاتية شارع محمد على ، عشت فى غرفته حوالى 4 سنوات اغلب وقته بالبجامة الكستور المخططة جالس فى بير السلم او أمام البيت يصلح آلات او يشرب شاى ، اما السيدة زوجته فقد كانت شديدة الطيبة ايضا والمرح ، أم سامى رحمها الله كانت مسكينة شبه قعيدة لأصابتها بمرض الفيل فكانت طوال الوقت تطل من شباك غرفتها بالدور العلوى ، وقليل ماكانت تجلس فى اعلى السلم المؤدى لدور سكناهم ، ولو فى حالة جيدة تنزل السلم وتجلس على اوله من تحت ، يبدو من ملامحها انها كانت جميلة فى صباها ، ولازالت تحمل روح الحياة برغم مرضها ، ثم اولادهم فى أعمار مختلفة ، سكان باقى الغرف هم شباب من عمال الترسانة البحرية بإمبابة حرصت على التودد اليهم بحساب شديد جدا حتى احافظ على خصوصيتى ، بيت عم محمد هو الوحيد فى الشارع الذى يسكن عنده اغراب وباقى بيوت الشارع يسكنها اهالى ، الحى هو حى عمال ، أقرب للأحياء الشعبية فى كل شئ لكنه يمتلك شوارع منظمة متسعة 


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


 بعد ان سكنت فى هذه الغرفة وبدات ارسم واخرج بلوحاتى وادواتى واعلق على الحوائط عندى مستنسخات لوحات ورسوماتى وكل هذا يظهر للمارة فى الطريق فمستوى غرفتى هو مستوى الشارع ، ومنذ ان ظهر هذا ، أصبحت انا اعجوبة الشارع ، الأطفال طبعا بفضولهم المستمر ، فتيات الشارع لغرابة هذا الفتى فى شعره ولبسه وسلوكه بالمقارنة بهم ، والأهم شباب الشارع المتنمرين والمنتظرين منى اى غلطه او تصرف خاطئ ، فهم شباب ورجالة الحته ، وانا فى نظرهم الغريب الذى ربما يمتهن عائلاتهم ، لكنى ايضا طوال فترة اقامتى لم يستطيعوا ان يقتربوا منى الا مرتين و واحدة منهم كانت مصيبة بكل معنى الكلمة وكان يمكن ان تصبح فضيحة مدوية ، سأقص هذه القصة فيما بعد ، أما طريقى للكلية فكان اما اتوبيس 104 ذو السمعة البشعة وقتها فى الزحام ، او اسير عابرا محطة قطار امبابة الى كورنيش الكيت كات واركب معدية “ بسيمة “ فأعبر الى الزمالك الى منطقة نادى المهندسين حاليا ، الى الكلية ، ولأنى اعشق الخروج مبكرا فكنت اخرج فى السابعة صباحا والوقت شتاء ، فكان هذا المشوار محبب الى جدا خاصة اذا كنت احمل لوحات وادوات كثيرة ، والطريق كله لايأخذ نصف الساعة.



أما قصر عبود ، متحف كلية الفنون الجميلة حاليا ، كان هو مبنى قسم تصوير عندما التحقنا بقسم تصوير ، وكما يعرف الكل فهو قصر جميل فخيم ، كان هناك ملك متوج لهذا القصر ، رجل يدعى عم محمد ابراهيم رحمه الله لو كان قد توفى ، هو الفراش المسئول عن القسم والمبنى كله ، كان اسمر البشرة اصلع ذو صوت اجش مبحوح ، متوسط القامة وذو كرش عظيم ، دائما يرتدى بنطلون بحمالات حتى لايقع بسبب كرشه وغالبا قميص ابيض ، يتحرك بإحساس المسيطر على كل شئ ، وهو فعلا كان هكذا ، (طبعا بكل التقدير والإحترام بعيدا عن رئيس القسم والأساتذة الأفاضل ، اقصد بيننا نحن كطلبة جميع الأتيليهات والموديلات والفراشين) ، قبل ان يصل الأساتذة غالبا تراه جالسا على كرسى يمين البهو عند مدخل البوفيه او واقف فى المنتصف واضعا يد على جنبه ، ويشخط وينطر طبعا بهزار مع الطلبة فقد كان شخصية محبوبة ، ولايتعامل معنا على انه فراش ابدا ، بعد ان بدأت علاقتى بالمبنى وبـ عم محمد تستقر قليلا ، كنت اصل الى الكلية فى حوالى السابعة والنصف صباحا وابواب الكلية كلها مغلقة ولايوجد احد ، الا هو وبعض فراشى الأقسام فكان يصل فى حوالى السادسة والنصف كما قال لى ، اقف عند الباب الحديدى المغلق والموجود حاليا خلف كانتين الكلية وعند السلم الدائرى للقصر ، انادى عليه واهز الباب حتى تصدر السلاسل والأبواب صوت ، فيخرج لى من باب القصر يسبقه كرشه وطبعا يبرطم كالعادة اليومية ، فينزل ويفتح لى باب الكلية من عند مبنى العميد أدخل ويغلق الباب مرة اخرى بالجنزير وهو مستمر فى البرطمة ، فاكون اول من دخل المبنى كل يوم صباحا الا لو سبقنى الفنان الكبير الذى كان لايزال طالبا يسبقنا بعامين عياد النمر ، نشرب الشاى سويا فى البهو ونتحدث وكان بيننا صداقة لطيفة ، الى ان تنتهى الموديلات من تنظيف الأتيليهات ، غالبا كنت ابدا العمل حوالى الثامنة صباحا ، تخيلوا روعة الجو فى الزمالك فى الشتاء فى الصباح الباكر ولا احد فى الأتيليهات كلها ، فى قصر عبود ، اشتغل بتركيز ومتعة ، ويبدأ اول من يصل بعدى الى القسم فى الوصول فى حوالى التاسعة والنصف ، فتكون اول استراحة لى فى الفراندا المقوسة عند سلم المبنى او البرجولا امام سلم القصر ، افطر واشرب شاى مرة اخرى.



تكملة لعم محمد ابراهيم ذلك الرجل الأسطورة ، والذى تم رفته من الكلية بعد تخرجنا بسنوات قليلة ، فى اول امتحانات لنا فى المواد النظرى ، اثناء اللجنة والكل مركز فى الإمتحان والإجابات ، ومعنا لجنة المراقبة ، يدخل فجأة من الباب ، عم محمد ابراهيم وهو فى كامل هيئته وكأنه ذاهب للزواج ، بدلة كاملة بجيليه صوف تحت البدلة وتحته القميص وربما كرافات ، وحذاء لامع ، يدخل واضعا يديه الأثنتين خلف ظهره ممسكين ببعضهم ، مما يزيد فى حجم كرشه ، فينظر الى المراقبين ويلقى عليهم التحية برأسه بتعالى ، ثم يبدأ فى الشخط فينا ، بص قدامك ، متبصسش للى جنبك وهكذا من اوامر المراقبين ، اول مره حدث فيها هذا اندهشنا لكن اغلبنا فهم انها لعبة من عم محمد ، ويبدأ المراقبين فى التوجس منه ربما شخصية كبيرة فى الكلية ، يمر بيننا الى ان يصل للمراقبين ، فيتحدث معهم بصوت واضح نسمعه ، دول عيال ولاد كذا ، تعبين اهاليهم ، ولابيذاكروا ولا بيهببوا ، فالحين فى الرسم واللعب وبس ، ويبدأ حوار مع المراقبين ، ينتهى الحوار ، بأن المراقب يقول لنا بصوت خفيض ، ياولاد الى معاه حاجة ينقل منها ينقل بس بسرعة ، ويقف عم محمد على باب اللجنة يراقب الطريق ، وجميعنا نضحك على ذكاء هذا الرجل والذى فعل هذا بدون طلب احد منا ابدا ، ويستمر هذا طوال الأربع سنوات.



هناك أيضا شخصيات لاتنسى مرتبطه بهذا القصر ، حتى لو كان لقائك معهم لزمن قصير ، وهذا حال اغلب الذين اعرفهم وانا طبعا تجاه هذه الشخصية المميزة جدا ، انها الزميلة نادين بقطر ، كانت صديقة منذ اعدادى فنون ومقربين الى حد كبير ، جميلة جمال الأميرات ، تعرف مستواها الفكرى والإجتماعى واصولها بمجرد ان تنظر اليها من ملبسها الراقى الذوق بلا مبالغة ، ذوق أوروبى رقيق ، وابتسامة لاتفارق وجهها ابدا ابتسامها اللطيفة ، ودودة للكل ، تحترم الجميع من الموديلات للفراشين لزملائها وطبعا للأساتذة ، شاطرة, لها لمسات فنانة ومتميزة ، لماذا احكى عن نادين ؟ ، أولا لأنها فعلا شخصية لاتنسى ابدا ، ثانيا لأنها كانت تفعل اشياء تدهشك من فطرتها الراقية الجميلة ، اذكر منها انه فى يوم اتت لنا فتاة صغيرة ريفية لتعمل كموديل ، عمرها مابين 8 و 9 سنوات ، تلبس ملابس الفلاحات وذات ملامح ريفية جميلة ، والبنت طبعا طفلة ولاتعرف ماذا تفعل ، وقفت جنبها نادين وكنت اقف معها تسألها فى براءة نادين ، هو انتى ليه مبتروحيش المدرسة حبيبتى ، وهكذا بعض الأسئلة التى اجابتها بدون تردد ، والذى لم تنطق به الطفلة لأنها لاتعرف ، الفقر الذى اعوز اهلها فأطلقوها للعمل فى الغيطان وكانت قريتهم من القرى الموردة للموديلات للكلية فى حينها ، فوقعت امام احداهن فأتت بها ، الى جانب الجهل طبعا ، المهم طبعا البنت لم تعرف ترد ، ولم تعرف ان تتجاوب مع اسئلة نادين ، وخجلت بشدة ، فما كان من نادين الا ان فعلت شئ عجيب ، اقتربت بالحامل الخاص بها فأصبحت اقرب واحد منا للبنت ، نزلت اشترت لها شيكولاته وبسكويت على ما أتذكر ، ثم فعلت الشئ العجيب لهذه الطفلة ، سألتها ، بتحبى تسمعى حواديت ؟ فهزت الطفلة راسها بالإيجاب ، وبدأت نادين تحكى لها حواديت بنبرة ودرجة صوت تليق بالأطفال ، ونحن نرسمها ، واخيرا بدأت الطفلة تشعر بالراحة ، وبدأت تبتسم وتتحدث ، وكلنا نبتسم لهذا التصرف الغير متوقع ابدا من نادين بقطر ، والتى بكل اسف ، استمرت معنا فقط فى اعدادى ونصف سنة اولى ، ثم اختفت تماما ، لم نعرف لها طريق ، وخسرنا زميلة وصديقة واخت راقية ومختلفة


وبعد التخرج وفى منتصف التسعينات جائنى اتصال متأخر فى حوالى التاسعة مساء فى مكتبى ، صوت يسألنى حضرتك أستاذ احمد زيدان ؟ ايوه انا مين معايا ؟ انا كنت زميلتك فى الكلية بس اكيد مش حتفتكرنى ، انا اسمى نادين بقطر ، اندهشت وقلت لها بسعادة هو فيه حد فينا ناسيكى يانادين طبعا فاكرك جدا ، انتى فين ضرورى اشوفك ، فقالت انها عايشة فى كندا وستسافر صباحا مبكرا لكندا وطلبت منى ان احصل على عنوانها من ابيها من ذات الرقم ونتراسل ، وبكل اسف لم استطع ان احصل على عنوانها ، لتختفى سنوات طوال اخرى ، ثم تعود للظهور مرة اخرى من خلال الفيسبوك ونتقابل فى الكلية بعد ذلك ، نفس الإبتسامة والرقى ، نفس الروح الجميلة ، انها نادين التى لم ينساها الكثير من دفعتنا بالرغم من اختفائها من منتصف سنة أولى.

هناك من يتركون فى حياتك أثر جميل لاينسى وتتذكرهم طوال العمر ، وهناك من يتركون الم وكراهية لاتنمحى مهما مرت السنوات ، سأحكى بعض من هذا ، وحدث واحد من ذاك ، والذى يصل الى حد الجريمة فيما بعد ......


ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء الثامن من هنا


بقلم الفنان / احمد زيدان 

الفنان / احمد زيدان
 الفنان / احمد زيدان 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات