القائمة الرئيسية

الصفحات

سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 6

 

الفصل الثانى


الجزء السادس : بداية التخصص والحنين

ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا 

بعد ان انتهت سنة الإعدادى وبتقدير امتياز وتفوق لى ولـ حاتم اتفقنا على جولة لطيفة ، حيث ذهبنا سويا وقضينا حوالى أسبوع فى مدينة المنصورة مسقط راس والده ووالدته وفى ضيافة جدته الراقية الهانم ، وأذكر اننى كنت لأول مره فى حياتى أكل مربى فراولة بهذا الطعم الشهى فقد كانت كلها عبارة عن الفراولة البلدى الحمراء الصغيرة كما هى وسط عسل المربى ، ومعها طبعا الزبدة والقشطه البلدى ، ثم من هناك الى الإسماعيلية لنقضى اسبوعا ايضا فى بيت أهلى ويجرب حاتم اكلات بحرية ربما لم يذوقها من قبل ، واذكر اننا قررنا ان نرسم مناظر فى الإسماعيلية ، حملنا الأدوات التوال والألوان الزيتية وغيرها ووقفنا فى احدى اماكن الفيلات الفرنسية نرسم ، ونتقمص روح التأثيريين فى الرسم من الطبيعة ، ولم يكد يمر حوالى النصف ساعة ، الا وجائت سيارة شرطة ، ونزل منها مخبرون 


سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 6



 وطبعا السؤال المعتاد (بتعملوا ايه هنا) ، (ممنووووع) وغيره من الجمل المعتادة ، المهم اقنعناهم اننا بنرسم واحنا بندرس فنون و الأمر لن يستغرق ساعتين وسنرحل ، تركونا ، ونحن نشعر انهم لم يقتنعوا ، ربع ساعة وعادت السيارة مرة اخرى ونزل منها نفس المخبرين ، وقالوا لنا (حضرت الظابط عاوزكم تحت فى شرطة النجده - لم تكن كلمة الباشا قد ظهرت بعد) ، وشاور الى اسفل المكان الذى كنا نقف فيه, فهو على مرتفع وهو آخر شارع فى منطقة الفيلات الفرنساوى ، فنظرنا ووجدنا اننا نقف تماما على المكان المرتفع وامام شرطة النجدة الموجودة بالأسفل ، الحقيقة لم نشعر بأى خوف ، ولكنا تعجبنا ، وكان هناك سلم طويل نازل الى شرطة النجدة فنزل معنا احد المخبرين ولحقتنا السيارة هناك ، ولم يستغرق الحوار وقت طويل ، عرضنا عليه كرنيهات الكلية ، فقال ( ممنوع الرسم هنا او التصوير) ، حاولنا ان نقنعه انه هل يعقل ان جاسوس اهبل بدلا من ان يصور المكان فى ثوانى وبكل تفاصيل بكاميرا مخبأة فى ملابسه ، هل يعقل ان يأتى ويرسم ويستغرق الساعات الطوال فى الرسم ؟ بلا فائدة ، بكلام واضح وضوح الشمس ، والحقيقة كانت المعاملة طيبة ولطيفة فعلا : (ممنوع الرسم او التصوير) ، وطبعا لم نكمل وقمنا بجولة فى هذه المنطقة الأوروبية الساحرة والتى ستسبب لى مشكلة كبرى فيما بعد فى مادة المناظر الخارجية ، لأنها ملاعب طفولتى ونضجى ومكون عميق فى وجدانى .


فى بداية سنة أولى فنون جميلة سكنت ربما لمدة اسبوع او عشرة أيام لا اتذكر عند حاتم فى بيتهم فى منيل الروضة ، وبعدها استطاع شمس زميلنا واحد اضلاع سنوات كلية فنون جميلة ان يجد لى حجرة اسكن فيها وحدى لأننى ايضا لم ارتاح فى السكن الجماعى فى اعدادى ، وكانت الغرفة فى مدينة العمال بإمبابة ، غرفة متوسطة المساحة دور ارضى لها شباك على الشارع مباشرة وحمام مشترك ، وايجارها 6 جنيهات كاملة فى الشهر طالما انا وحدى ، ولو سكن معى احد ستصبح 8 جنيهات.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


وهنا يلح على بالى ان اقص شئ ربما يبدو انه بعيد عن الكلية واحداثها ، ولكنه كان محرك لسلوكى المادى طوال سنوات الكلية ، واحكية حبا فى ابى رحمه الله وعرفانا بجميله على وعلى اسرتنا كلها ، فأبى هو فى نظرى اعظم صورة للعصامى الذى بنى نفسه من قاع المجتمع ، ليرتقى سلم الصعود الإجتماعى بقوة وثقة ، صبى ابن رجل صعيدى يعمل جناينى فى حدائق شركة قناة السويس فى الإسماعيلية ، ومثل اى فلاح يأخذ ابنه البكر معه ليعلمه صنعة البستنة ويساعده ، فكان هو ابى الذى كان صبيا أميا لايقرأ ولايكتب ، ولا اعرف اى قوة طموح كانت فى عقل وصدر ابى وكيف فعل هذا ؟ ليكافح عبدالله زيدان ابى فى داخل شركة قناة السويس ، وفى الشركة يتعلم القراءة والكتابة ويرتقى فى الأعمال البسيطة الى ان يتعلم اللغة الفرنسية ويصبح يتكلم بها مثل اهلها ، بل ويكون من الأوائل فى الدورات الخاصة باللغة الفرنسية والذى كان يزامله فيهم مهندسين و غيره من خريجى الجامعات لأن اللغة الفرنسية هى لغة مكاتبات الشركة وقتها ويجب ان يتقنها الجميع ، ويحصل على مكافئتين الأولى رحلة مع المتفوقين الى اوروبا, فرنسا وايطاليا وسويسرا ، ثم يصبح موظفا هاما فى الشركة وفى ادارة من اهم الإدارات ويصبح عمله بشكل مباشر مع رؤساء الهيئة كلها من محمود يونس وحتى عزت عادل ، ولكنه لم يبتعد عن عشقه للزرع ابدا فكانت النباتات دائما تنافسنا فى مساحة بيتنا ، خرج ابى على المعاش عام 1969 ، ونحن فى الهجرة ، وبالتالى لم يعد لنا سكن فى الإسماعيلية لأننا كنا نسكن فى سكن ادارى تابع للهيئة ، وعندما عدنا بعد انتهاء الحرب كان ابى يبلغ من العمر حوالى 65 عاما وهو العام الذى دخلت فيه الكلية ، لم اشعر بهذا الصراع فى داخل ابى حينها ، فكيف يستطيع بالمعاش الضئيل ان يساعدنى فى التعليم الجامعى وغربتى وسكنى فى القاهرة ، ولا يؤثر هذا على مصاريف البيت ، لم ادرك هذا الصراع ، ولكن حدث شئ ربانى ، ليحل أبى هذا الرجل العصامى الطيب المحترم هذه المشكلة الكبرى.


فى صيف 1974 وهو اول صيف نعود فيه بعد الهجرة ، والذى سألتحق فى نهايته بكلية الفنون الجميلة ، كان ابى مثل اغلب اهل الإسماعيلية يركب دراجته الخاصة ويتنزه بها فى المدينة او يتزاور مع اصحابه ، واثناء تنزهه وجد قطعة ارض فى وسط المدينة يحفر فيها العمال حفر لبناء مبنى او شئ كهذا ، فتوقف ابى لأنه يعرف هيئة عمال قناة السويس وهم مختلفون ، سألهم مذا تفعلوا فقالو سنحفر لوضع اساسات مبنى ، ذهب الى المهندس المسؤل وقال له ان قطعة الرض هذه ملك هيئة قناة السويس وليست من املاك المحافظة او البلدية ، فطبعا قال له المهندس انه لاعلاقة له بهذا, فهذا امر عمل من المحافظة نفسها ، ركب ابى دراجته واتجه الى مبنى الإرشاد, مبنى ادارة هيئة قناة السويس وذهب الى الإدارة التى كان يعمل بها وهى ادارة الأشغال ، وهى تختص بأملاك الهيئة وادارة الكثير من اعمالها ، رحب به الجميع ودخل لرئيس القسم فحكى له ماحدث ، فألقى له المدير قنبلة ، قال له جميع خرائط ومستندات ملكية الأراضى على وجه الخصوص مختفية ربما احترقت فى الحرب او اختفت باى صورة من الصور ، وبالتالى لا تصرف لديهم فى هذا الشأن ، ولكنه قال له تعال نصعد الأمر للمهندس مشهور رئيس قناة السويس ، وبالفعل صعدا وكانت علاقة ابى به طيبة جدا ، فحكوا له ماحدث ، فسأل ابى ماهو الحل يا أستاذ عبدالله ، فقال له ابى فى باريس هناك جمعية اسمها جمعية شركة قناة السويس تحتفظ بأغلب الأصول والصور لكل مستندات قناة السويس وحتى بعد التأميم كنا نتراسل معهم ونرسل لهم مايحتاجوه من مستندات فهى جمعية محترمة تهتم بتاريخ القناة ، وممكن من إدارة الأشغال ان تتراسل معهم وتطلب منهم صور الخرائط والمستندات ، فسأل ابى : هل تعرفهم شخصيا ؟، قال له ابى : كنت اتراسل معهم ولا ادرى ان كان هناك احد ممن اعرفهم لايزال موجود فى الجمعية ام لا ، فرد المهندس مشهور : لا يا استاذ عبدالله ، ستعود من الغد لتعمل فى مكتبك كما كنت بعقد ، ومطلوب منك مراسة الجمعية لإسترجاع جميع الخرائط والوثائق التى ضاعت ، لأنك تتحدث وتقرأ وتكتب بالفرنسية وتعرف مانحتاجه بالظبط ، ووافق ابى فقد كان يعشق عمله.


عاد ابى الى البيت وحكى لأمى ففرحت ، وكنت بالبيت وقتها وقال لى : اهو رجوعى للشغل ده ربنا بعته علشانك وعلشان مصاريف حياتك فى القاهرة ودراستك ، وهنا تم بيننا اتفاق بدون ان نقرره او نقوله ، ووافقت عليه بدون ان انطق ، فكان قرارى اننى لايمكن مهما كان راتبى الشهرى للحياة ومهما حدث فلن اطلب من ابى ابدا ان يرسل لى دعم ، وهذا ماحدث طوال سنوات الكلية فعلا بالرغم من الظروف التى كنت امر بها احيان, اعتذر أنه قد طال بى حنينى وانا اتذكر ابى رحمه الله ، فـ فى حياته نضال يستحق الإحترام والتقدير واتمنى ان اكتبة يوما ما بالتفصيل عرفانا له وحب .

اخيرا استقريت فى سكن خاص بى تماما حتى لو حجرة فى مدينة العمال بإمبابة ، فقد اصبحت عالمى الخاص وسكنى ومرسمى ، احتوت على سرير سفرى ، كنبة اسطنبولى ، ترابيزة واتنين كرسى ومكتبة من جريد النخل ، وحامل المناظر الذى كنت قد اشتريته ب 12 جنيه كاملين ، والذى احتفظ به الى الآن وافضله فى الرسم عن غيره بالرغم من احتياجه لعمرة ، عين بوتجاز صغيرة انبوبة بعين ، وراديو ترانزيستور ، وقفل نحاسى اغلق به عالمى عندما اخرج ، واستقريت تماما على اختيار قسم تصوير للتخصص ، وتذبذب حاتم بين تصوير وحفر ، ولكنه استقر اخيرا الى تصوير ، وبدأ عالم التخصص ، واخيرا لم نعد اصغر من فى الكلية.

ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء السابع من هنا 

بقلم الفنان / أحمد زيدان 

الفنان / أحمد زيدان
الفنان / أحمد زيدان 



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات