القائمة الرئيسية

الصفحات

سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 10

 

أن تسكن وحدك ...

ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا


استبعدت من اعدادى فكرة السكن فى المدينة الجامعية بالرغم من قربها من الكلية وقلة تكاليفها وتوفير الأكل ، بالرغم من حقى فى هذا ، والسكن الجماعى فى اعدادى نفس نتيجة سكن المدينة الجامعية ، تشتيت بلا خصوصية ، فكانت غرفة مدينة العمال فى بيت محمد عبدالعزيز رحمه الله فى امبابة هى الأمل ، فأصبحت فعلا هى ما حلمت به “من ناحية الإستفادة والنتائج”، لى فيها نظامى اليومى “ انا رجل ممل نظامى احب كل شئ افعله ان يكون منظما ، إمتلأت الحوائط بمستنسخات لوحات للفنانين الذين احبهم وبعض رسوماتى واسكتشاتى التى احببتها ، مكتبتى المصنوعة من اغصان الجريد والتى بدأت تحتوى على كتبى ودفاتر الاسكتشات وادواتى ، وترابيزة صغيرة من الجريد ايضا بجوار الباب هى مطبخى ، عليها بوتجاز محمول بعين واحدة وما احتاجه لتقضية اليوم ، ولاتوجد ادوات للطهى طبعا فلم اكن اعرف اى شئ الا البيض المقلى او المسلوق ، واخرى صغيرة من الجريد ايضا هى مكتبى.


سنوات كلية الفنون الجميلة جـ 10



استيقظ مابين السادسة والنصف والسابعة الا الربع صباحا ، وانطلق منها للكلية حوالى السابعة، اسلك طريقى بين شوارع مدينة العمال لأصل الى محطة قطار امبابة اعبرها الى ضريح سيدى الإمبابى الى الشوارع الضيقة خلف قسم امبابة ، أخرج من الشوارع الضيقة الداكنة فى الصباح الباكر الى نور كورنيش الكيت كات وجزيرة الزمالك يسطع رقيقا ، والضباب يغطى النصف السفلى الأقرب لسطح النيل لجزيرة الزمالك ، اصل الى معدية “بسيمة” ، امرأة عجوز الى حد ما نحيفة ذات ملامح حادة ، يبدو من تصرفاتها انها كانت قوية الشخصية ومسيطرة فى شبابها ، تجلس على بوابه صغيرة تؤدى الى سلم نازل الى سقالة المراكب الخشبية ذات المجاديف ، تجلس على البوابة فى يدها سيجارة رافعة قدمها اليمنى على البوابة تغلقها بها ولايعبر احد من الطابور الذى نقف فيه الا بعد ان يدفع لها قرش ، ثمن العبور ، كنا احيان لانرى الجانب الآخر من النيل من قوة الضباب صباحا بالرغم من ان فرع النيل هنا ليس عريضا ، وفى ايام التحاريق النيلية ،موسم جفاف النيل ، كان اكثر من 60% من هذا الفرع يجف لكن على طين طميى لزج لايمكن العبور عليه ، فكانت المراكب تسير قليلا ، ثم باقى المسافة على سقالات خشبية سواء من ناحية الكيت كات او الزمالك ، فأخرج الى شارع ابوالفدا وشوارع الزمالك ذات الأشجار الكثيفة الهادئة والبيوت الجميلة والفيلات ، من دنيا الى دنيا اخرى ، اصل الى الكلية حوالى السابعة والنصف صباحا ، وبعد انتهاء يوم الكلية ننطلق الى الثقافى الإيطالى لمشاهدة معرض او افلام او للمكتبة او غيره مثل جوته فى شارع البستان بالقرب من ميدان التحرير او الأسبانى فى ممر كودك بشارع عدلى وغيرهم طبعا ، او نتسكع ثم اعود الى غرفتى ، ماتبقى لى من وقت قبل ان اخلد الى النوم ، اول شئ افتح الراديو على اذاعة ام كلثوم ، ثم ارسم ، او اقوم بترجمة كتاب من الكتب التى اشتريناها 


كنا بدأنا مشروع الترجمة انا وحاتم بعد ان تأكدنا ان المكتبة العربية المتوفرة عن الفن التشكيلى ضعيفة جدا ، ولامفر من الترجمة ، وكنا خريجى مدارس حكومية وبالتالى لغتنا الإنجليزية متوسطة ولاتسمح لنا بالترجمة كما يجب ، فإتبعنا طريقة كانت متعبة فى البداية ثم اعتدنا عليها ، كنا نترجم كل شابتر وحده ، وفى ورقة خارجية نكتب الكلمات التى لانعرفها ، فى البداية كانت كثيرة جدا ، ومع الوقت بدأت تتقلص ، ثم مع استعمال قاموس الياس ، نكتب ترجمة كل كلمة تحتها ، ثم اقوم بكتابة الترجمة الحرفية للشابتر كما هو ، والذى يليه وهكذا ثم اتركهم ، وبعدها بيوم مثلا اقرأ ماترجمته فأجده محتاج للترجمة ايضا فهو غير مفهوم ، فاعيد الصياغة ، مره واثنين وثلاثة الى ان ارتاح واراه بسيط ، وبهذه الطريقة قمنا بترجمة بضع كتب ليست قليلة ولاكثيرة ، لكن هذه الترجمة ضاعفت محصلتنا اللغوية اضعاف مضاعفة ، ولأننا ندرس فنون فكان فهمنا للمصطلحات الفنية ايسر واوضح من اى ترجمة اخرى ، اتناول سندوتش العشاء ، ثم بمجرد ان تبدأ فقرة اغنية ام كلثوم وغالبا كانت فى التاسعة مساء او قبلها بقليل حسب طول الأغنية ، اطفئ نور الغرفة واتلحف باللحاف والبطانية فشتاء هذه الأيام كان باردا فعلا ، شوارع المدينة ساكنة تماما لا سيارات ولا حتى بشر يتحركوا فيها الا القليل جدا ، والراديو جنب رأسى استمع واستمتع وابدا اغفوا على هذا الجمال واصحوا حتى تنتهى من فقرتها فى العاشرة بالدقيقة ، فينتهى ارسال الإذاعة ، واغلق الراديو وانام الى صباح يوم جديد.


لم ارى فى حياتى سيلف بورتريه فى عظمة ودفء وتعبيرية واستاذية رامبرانت ، وكنت اعلق صورة صغيرة لإحداها قى غرفتى ، كما كنت شديد الإعجاب بسيلف بورترية لديجا وهو شاب ، استنسخته فى حجم صغير بألوان مائية ، ثم قررت لأول مره فى حياتى ان ارسم لنفسى سيلف بورترية فى لوحة زيتية ، شجعنى على هذا اننى كنت قد استعرت جمجمة بشرية حقيقية لإمراءة كانت عندى بغرفتى فتطلق الخيال لرسمها ، بالرغم من اننا كنا لانزال فى بدايات التعرف على الألوان الزيتية واستعمالها فى الكلية ، قررت الإستمتاع بالمغامرة ، فكان لابد من شراء مرآة ، فأشتريتها صغيرة يطلق عليها مرآة حمام فى حدود الـ 30 فى 40 سم ، كان من المستحيل شراء واحدة كبيرة بسبب الميزانية ، وكانت تعلق بحبل من الخلف ، فثبت فى الحائط مسامير تبدأ من الارتفاع المناسب لوجهى ، ثم اسفل منه ثم اسفل بحيث احرك المرآة كلما اردت ان ارسم مكان اسفل رأسى او اعود لأعلى حتى نهاية اللوحة ، وكنت فى حالة استمتاع ونشوى غير عادية ، تكنيكيا لازلت ضعيفا فلاخبرة ، ولكنى كنت فى حالة من الإستمتاع كبيرة جدا ، لدرجة اننى احيان كنت ارفض الخروج فى جولتنا اليومية من اجل ان اعمل فيها ، وبدأت تظهر مشكلات بعضها تجاوزت عنه وأخرى حللتها ، فمثلا حينها كنت افرق شعرى من الجنب ، وفى المرآة سيكون معكوسا ، ولم يكن هناك حل فرسمته كما هو فى المرآة ، ثم هناك وضع اليد ، فى الحقيقة احمل الفرشاة بيدى اليمنى وفى المرآة احمل الفرشاة كأنها يدى اليسرى ، فأمسكت الفرشاة بيدى اليسرى فعلا فكانت اليمنى فى المرآة وهكذا ، الى ان انتهيت منها وكنت راضى عنها تماما بتكوين انا فيه وحامل الرسم واللوحة والترابيزة عليها الجمجمة وانبوبة لون ، كنت فخور بها ، “تختلف رؤيتى اليها الآن بالرغم من انها تقريبا اول تجربة لوحة زيتية خاصة واول سيلف بورتريه وفى مرحلة اولى تصوير” ، ولكنها الحمد لله نجت من طوفان ضياع وفقدان اعمالى الذى اتى على 95% مما كان عندى”


 فى نفس العام اقام الفنان العظيم الأستاذ بكل معنى الكلمة صبرى راغب معرض فى قاعة الدبلوماسين الأجانب فى الزمالك ، وكنت اول مره التقى به شخصيا ، كان مبهرا ، ترددنا فى التعرف عليه ، حتى واتتنا الشجاعة فتقدمنا وتعارفنا ، انسان شديد اللطف بشوش يرحب بالجميع بمحبة ، تحدثنا معه بعض الوقت ، ثم وللمفاجأة يدعونا لزيارته فى بيته ومرسمه فى شارع الأهرام بمصر الجديدة ، رحبنا بسعادة ، ثم بعد ان تركناه لضيوفه استشرت حاتم وسعيد هل يمكن ان آخذ معى السيلف بورتريه ليعطينى رأيه فيه ؟ فرحبوا بالفكرة وبخجل استأذنته فوافق مرحبا جدا.


ملحوظة : يمكنك ان تشاهد اعمالى الفنية من هنا سواء للمشاهدة فقط او للاقتناء, كما يمكنك التواصل معى عبر صفحة اتصل بنا او مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة فى حال رغبت فى اقتناء احد الاعمال الفنية او نسخة عالية الجودة منها


التقانا بالروب دى شامبر الصوف فى صالون بيته ، مكثنا اول مره حوالى ساعتين ، وتكررت الزيارات بعد ذلك ربما مرتين او ثلاثة ، واستفاض معنا فحكى لنا تفاصيل دراسته فى الكلية والسفر لأوروبا والعودة وعشقة لرامبرانت ومانشينى الإيطالى ، وطبعا مع جولة مذهلة فى اعماله وخاصة السيلف بورتريه ، ثم شاهدنا بعض لوحات مشروع تخرجه وكان عن بنات الليل ، من امتع التجارب ان ترى لوحات فنان كبير مثل صبرى راغب فى فترات حياته من وهو صغير يبحث عن اسلوبه الى ان يصبح أستاذ وهو يستحق الإهتمام به اكثر من هذا بكثير جدا ، وربما احكى عنه يوما ما لو كان للعمر بقية ، فى الزيارة الأولى شاهد اللوحة وكنت شديد الخجل من عظمة ما رأيته من بورتريهات معلقة حولى ، لكنه كان لطيفا جدا ، لم يجامل ، ولم يبخس ، حكم عليها بحقيقتها كمرحلة عمرية وخبرة إلا انه اثنى عليها بهذا المقياس واعتبرها ممتازة ، ثم قال لى شئ لم بخطر ببالى ابدا فى اللوحة ، قال لى ان منظور الباليتة التى احملها فى اللوحة ، المنظور اللونى اكثر من رائع ، ومحترف ، وهو اكثر شئ لفت نظره فى اللوحة دون اعتبار للمقياس الذى ذكرته ، وهذا شئ اسعدنى جدا وبالتأكيد كنت اتمنى ان يكون الكلام عن باقى اللوحة لكنها لم تكن بهذا القدر ، زرناه ايضا فى سنة تانية ربما مره او مرتين ثم انقطعت زياراتنا له تماما بدون اسباب لهذا 


 وتمر السنوات وبعد التخرج ربما بحوالى 9 سنوات ، كنت اجلس على مقهى الفيشاوى ، فآتى صبرى راغب اليها ومعه بعض اصدقاؤه وربما من اهله وجلسوا بعيدا عنى ، وكان قد ظهر عليه التقدم فى العمر ، فقررت ان اذهب القى عليه التحية وانا واثق انه لن يتذكرنى ابدا ربما اكثر من 12 سنة منذ ان زرناه آخر مره ، ولكنى احب ان احييه ، وبالفعل ، سلمت عليه وعرفته بنفسى وقلت له كنت قد تشرفت بزيارة حضرتك فى البيت بمصر الجديدة ولكن بالتأكيد نسيت واحببت فقط ان اسلم عليك ، فضحك وقال لى طبعا اتذكركم واتذكرك اتيت لى بلوحة سيلف بورتريه وفيها جمجمة واعجبتنى الباليته حينها ، كنت فى قمة سعادتى انه على الأقل يتذكر الحدث ولايهم ان يتذكر اسمى ، فشكرته جدا على هذا وانصرفت ، وبكل اسف لم التقيه مرة أخرى الا ربما فى افتتاح معارض حتى توفاه الله.


من المستحيل ان اتحدث عن ذكريات كلية الفنون الجميلة ، دون ان اذكر اهم ثلاث زميلات عرفتهم ، اولهم سميحة ، فهى ليست فقط اول صديق لى فالكلية سواء اولاد او بنات ، وانما هى اول صديقة فتاة لى فى حياتى ، تعرفنا فصارت بيننا صداقة طوال سنوات الكلية نتحدث تقريبا يوميا ، ثم افترقنا بعد الكلية ثم التقينا مرة اخرى من بضع سنوات قليلة فعادت صداقتنا كما كانت.


ثم ( د ) ، لا اعرف حقيقى كيف اتحدث عنها ومن اين ، سأبدأ بأوصافها ، والتى يتفق معى عليها 100% كل من عرفها مثلى ، لم ارى فى حياتى قبل هذا فى رقتها ولطفها ، وعذوبة ملامحها الجميلة الرقيقة ، بيضاء ذات شعر كستنائى وعيون زيتونية اقرب للأخضر ، شخصية مهذبة جدا ، وخفيفة الدم ، ودوده وطيبة ذات قلب شديد البياض طوال سنوات الكلية لم نراها الا مسالمة ، منذ اول يوم تعرفت عليها بالصدفة فى اعدادى فى كافيتيريا الكلية حدث بيننا توافق كيميائى تام ، لم يكن بيننا حب ، ولم يكن صداقة ، ربما شئ اعلى منهم ، هذا حقيقى حتى لايفهم احد الكلام على انه علاقة حب ، اصبحت اقرب انسان لى ، ووجودها لاتشبع منه ابدا لأنها كانت ارق واخف من ان تمل منها ، رسمتها مرات عدة, اسكتشات ورسومات وكنت كلما ارسمها يصيبنى الخوف ، كيف يمكن ان ارسمها ، كيف اصطاد بيدى هذه الشخصية والجمال واضعهم على الورق ، ثم قررت فيما بعد فى التيرم الاول من سنة 3 ان ارسمها بورتريه بالألوان الزيتية كبير ، كان مقاسه 85 فى 110 سم ، ولخوفى قررت ان ارسمها بالقلم الرصاص اولا بشكل كامل قبل التلوين على التوال ، واستغرقت فى هذا وقت ارسمها بعد الساعة 3 فى الاتيليهات بعد ذهاب اغلب الطلبة ، وهى جالسة تضع يديها على حجرها برقة ، وبدون اى تردد اقول اننى ربما رسمت اجمل اوت لاين رسمته فى حياتى وربما الى الآن ، وبالفعل استطعت ان اضع شخصيتها وجمالها على التوال كما كنت احلم ، وكان هذا رأى المقربين منا الذين شاهدوا اللوحة ، لدرجة اننى خفت ان احول هذا الآوتلاين الى لوحة زيتية ، فيضيع منى كل هذا الجمال ، فبدأ ت اتباطأ فى قرار التلوين ، الى ان حدث شئ ، ابعدنى عنها قليلا ، وتراجعت علاقتنا الى الخلف قدر ليس بسيط ، والسبب انا وما سأحكيه فيما بعد.


اما راواية ثالثة الثلاثة ، فهى قصة من قصص عمرى ودراما عنيفة جدا ، سيأتى وقتها فيما بعد ....

وانتهت سنة اولى كلها ، كان حاتم قد غير مساره وانتقل الى قسم حفر بعد اجازة نصف العام ، ونفس التقدير امتياز مع ترتيب متقدم جدا فى الدفعة وصعدنا الى ثانية تصوير....


ملحوظة : يمكنك قراءة الجزء الحادى عشر من هنا 


بقلم الفنان / احمد زيدان 

الفنان / احمد زيدان
 الفنان / احمد زيدان 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات